د. محمد بن إبراهيم الملحم
كنت وعدتكم أن أتحدث اليوم عن التعليم عن بُعد، ولكني قررت أن أتحدث عن الوطن عن قرب، فمسألة التعليم عن بُعد ربما تقود إلى التعرض لبعض المشكلات والمصاعب بينما في احتفالنا بيومنا الوطني الأفضل أن يكون حديثنا كله مفرحاً جالباً للابتسامة والسرور، فماذا أقول في هذا اليوم ضمن إطاري الذي حددته لنفسي في هذه الزاوية عن التعليم؟ لا أعتقد أن الأمر صعب فإنجازات بلدنا المعطاء التعليمية أكثر من أن تعد، وإن أولاها بالذكر توفير التعليم النظامي «المجاني» ففي حين يدفع ملايين من أولياء أمور الطلاب في العالم جزءًا مهماً من دخلهم الشهري لمدارس أولادهم ليكفلوا لهم تعليماً جيداً، فإن أولادنا جميعاً يدرسون بالمجان، ليس منذ الابتدائية بل حتى منذ رياض الأطفال وهذه ميزة لا تتوفر إلا في الدول المتقدمة التي توسم بالرفاهية الاجتماعية في مؤشراتها الاقتصادية، وبالمثل في التعليم الجامعي ففي حين أن أغلب «إذا لم يكن كل تقريباً !» بلدان العالم يدفع الطالب رسوم الجامعة فإن طلاب المملكة على العكس من ذلك تدفع لهم الجامعة مقابل دراستهم فيها، وهذا بدون شك مثار العجب (والإعجاب) لدى أي شخص يسمع بذلك. التعليم الجامعي في أوروبا وأمريكا ليس هو السائد فكثير من الطلاب ما إن ينهي الدراسة الثانوية التي هي تمثل آخر مرحلة من التعليم «الإلزامي» حتى ينخرط في سوق العمل في أية وظيفة تناسب قدراته ليتمكن من العيش، أو ربما ليتمكن من جمع رسوم الجامعة التي ربما يلتحق بها بعد 3 أو 4 سنوات من العمل. الذين يلتحقون بالجامعة مباشرة هم الذين تملك عائلاتهم دخلاً جيداً يمكنها من دفع الرسوم، وهؤلاء لن يكونوا نصف الشعب ! ولهذا السبب تقدم الجمعيات الخيرية والجامعات منحاً دراسية مخصصة للطلاب المتفوقين كيلا يخسرهم المجتمع في سوق العمل ويتمكنوا من مواصلة الدراسة الجامعية مما ينعكس بالتالي على التنمية الاقتصادية للدولة لاحقاً من خلال هؤلاء المتفوقين ودخولهم في مجال الخبرة. كما أن الجامعات توفر أيضاً تسهيلات للطلاب بدفع الرسوم بأقساط مريحة وكل ذلك لمساعدة الطالب في الغرب على دخول الجامعة بينما لدينا يدرس بالمجان ويأخذ مكافأة.
التعليم العام لدينا، وإن كنا غير راضين عنه لكنه حقق قفزات نوعية عبر تاريخه لمن يرصد ذلك، فهو قد تماهى مع التطورات النوعية في المناهج الحديثة في الرياضيات مثلاً كما حصل أواخر السبعينات والثمانينات الميلادية واستمر في التطوير، وكذلك طور مناهج العلوم في كل المراحل أكثر من مرة لتحقق جودة نوعية في العرض والتقديم، ونظم عدداً من المواد المهمة مثل الدراسات الاجتماعية ولغتي وتطوير مادة اللغة الإنجليزية عرضاً وتقسيماً، كما تحول إلى مفاهيم متطورة في إدارة المرحلة الثانوية مثل نظام المعدل التراكمي وخطة المقررات واختبارات القبول الجامعي (قدرات وتحصيلي)، وشهد المبنى المدرسي تطورات متنوعة في التصميم والوظيفة عبر مسيرة الزمن آخرها وأبرزها من وجهة نظري الصالات المغلقة متعددة الأغراض وتكييف بهو المدرسة وأسلوب المجمعات، ولن نتحدث عن التجهيزات الحديثة مثل السبورات الذكية والبروجكتورات التي تملأ مدارسنا ويتمناها كثير من المعلمين في دول العالم اليوم، كذلك الخدمات الإلكترونية مثل بوابة المستقبل ومنصة التعليم عن بُعد وقناة عين ونظام نور وأمثالها من التقنيات التي يسرت العمل التعليمي وساعدت على الإبداع.
وأعتقد أن إنشاء شركة لمشاريع تطوير التعليم مثل شركة تطوير بفروعها المختلفة: التعليمي، والمباني، والنقل، وتقنيات التعليم هو مجهود عظيم لا تقدم عليه إلا الدول المتقدمة التي تستثمر في التعليم بقوة وتجعل منه محوراً للتنمية الاقتصادية فعلاً ولذلك تبذل له المال والجهود، وحتى في تلك الدول فإن المؤسسات التي تنشئها الدولة تعمل بالنظام الربحي وتعيش تحدي السوق، بينما شركاتنا السعودية مع أنها تعمل بنفس هذا المبدأ الربحي في نظام تأسيسها إلا أن الدولة ترعاها وتشجعها بالدعم والمساندة لتركز في تحقيق أهدافها التنموية. كما أن لائحة المعلمين الجديدة بما فيها من تنظيمات تقود إلى التنافس على الجودة وتحسين الذات هي إنجاز تنظيمي مهم سيكون له أثر إيجابي على نواتج التعلم إذا أحسن تطبيقها، وإن الثقافة السائدة في المجتمع اليوم تتجه إلى تقدير التعليم النوعي وقيمته في تقدم الإنسان، وخلافاً للسابق حيث كان المجتمع ينظر للتعليم كمصدر للشهادة التي هي البوابة السهلة للوظيفة فإن هناك حس ينمو شيئاً فشيئاً نحو أهمية الجانب النوعي لتكون للشهادة قيمتها المرجوة، فالتفوق والتمكن هو طريق الوظيفة اليوم، ولهذا فإن الأصوات التي تطالب بتطوير التعليم وتحسين أدواته، تنطلق من هذا المنطلق، مع ثقتي بإيمانها بوجود جوانب تطوير متنوعة في الخدمة التعليمية لكنها تتطلع لمستويات أعلى ومنافسة ما يشاهدونه في المجتمعات الأخرى ليحقق أبناؤهم وبناتهم مستويات متقدمة وليرتقي المجتمع أيضاً في سلوكه وثقافته إلى ما يشاهدونه في تلك المجتمعات... طموح قابل للتحقيق بدون شك طالما أن عربة التحسين والتطوير تسير كما قدمت لكم قبل قليل وهو ما يسعدنا في وطننا الحبيب... «وهل نحب سواه».
** **
- مدير عام تعليم سابقاً