د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** بالرغم من تجاور» الألف والباء» إلا أنهما لا يلتقيان إلا في كلمةٍ واحدةٍ ذات معنى إن تقدمت الألف، وأخرى لا تعدو أن تمثل دلالة صوتية إذا سبقت الباء، وغيرِهما إذا تبدلت الحركة، وحينما تتداخل معهما أو تدخل بينهما الحروف تنتج معانٍ وأصواتٌ وحكاياتٌ ودلالات، ما يعني أن التجاور لا يفيد التحاور ولا التزاور، وكذا تستجيب الجغرافيا لهذا المفهوم؛ فتايوان والصين، وكوبا وأميركا، وإيران والخليج بقرب الألف من الباء وببعد الأرض عن السماء.
** الفارق الأهم هنا هو أن الاقتراب ممكنٌ شكليًا متعذرٌ معنويًا، وفي القراءات الثقافية تبدو خلافات الجوار أقسى من اختلافات الأباعد، كما أن المدلول الثقافي ممتدٌ ليشمل قضايا الأدب والدين تحديدًا مثلما يحتوي التجاذبات الأخرى، وشهدنا ونشهدُ تراجع محاولات التقريب بين المذاهب الإسلامية، لدرجة أوشكت معها هذه الاختلافات أن تصنع أديانًا، وبالرغم من الحوارات الممتدة بين ذوي الانتماء وعاشقي الارتماء، سواءٌ بين بعضهم أو مع مناوئيهم، فإن المسافات المتجاورة والمتقابلة شكلًا كما الألف والباء لم تستطع أن تصنع تقاربًا حقيقيًا يلمُّ الشمل؛ فالأغلبية مقتنعة بعبث مناظراتهم، ومؤمنة أن ما يُثار من مشكلات بين الشيعة والسنة من جانب التضاد والأشاعرة والسلفية من جانب الامتداد، وهم المكون الأكبر للفرق الإسلامية، لا قيمة لها فلن تُؤصّل ولن تفصل، وكلٌ يتعبد ربه بما فُطر عليه، ومن يُحكّم عقله سيتجاهل صراعات التأريخ، ومن يود أن يعيشها فسوف يعشى بها، وقبلنا أيقن ذوو البصيرة أن ما نجت منه أيدينا لا تستعيده أصواتنا ولا أوراقُنا.
** ليتنا تجاورنا مثل الحروف ولو لم نكوِّن دلالةً معرفيةً مستقلة؛ فالسين رفيقة الشين، والدال أخت الذال وليس بينها رابط عقلي أو عاطفي، وإنما تسندان سواهما من الحروف وتشتركان معها في البناء الدلالي والمعرفي، ولعل المفارقة اللطيفة في هذا الموضوع أن حرف الهمزة والألف يحتويان جمعًا مؤتلفًا فيبتدئان به (أب - أم - ابن - ابنة - أخ - أخت)، وفي الألف تأليفٌ وتآلفٌ وإلفة، في حين أخفقت محاولات التأليف بين العصبيات والمذهبيات والطوائف والقبائل والساسة والمثقفين، وبنت الوسائط الرقمية اللجاج بالرغم من دعاوى الامتزاج.
** للحروف دلالاتها دون ريب، وفضَّل بعضُ العرب الحروفَ المعجمة على المهملة لإيحاءات الأولى المتفائلة، وأوجدوا معانيَ تناسب كلًا منها، وقد تنقلب المفاهيم بتبديلها، وربما وقع واحدنا في خطأٍ غير مقصود عند الكتابة لأن حرفًا مجاورًا سبق الحرف المعنيّ، وبعضُها محرج، ومن لا يدقق فيها يناله عتب منها؛ فالرواية تصير غواية، والسلام ظلامًا، والجمر خمرًا، والنقد حقدًا، والرياء رواء، والحضارة حقارة، والدرب غربًا، والإرادة إبادة، والعلم عقمًا، والطبع طبلًا، وهكذا.
** ليس للتجاور أن يمثل مفاهيم مستقلة بنفسها؛ فللبعد مفاهيم أكثر إشراقًا حين يقسو القريب فيأسو الغريب، ويظلم الأدنى فيعدل الأنأى، ولله حُكمُه وحِكمُه.
** الحروفُ عوالم.