سوف نلقى الضوء هنا على دراسات عن الفساد من حيث المدى والمصادر والنتائج تأخذ جانب التحليل النظري والتجريبي للفساد هذه الدراسات قام بها الاقتصادي الأمريكي روبرت ميرتون الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد والأمريكي إدوارد بانفيلد عالم السياسة الذي كان مستشاراً للرؤساء الجمهوريين (ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ورونالد ريجن). ومع أن الدراسة قد أسهبت كثيرًا إلا أننا سنركز على بعض الجوانب المهمة حول الموضوع.
المعروف أن الفساد في مفهومه الموجود في الدولة هو جهود لضمان ثروة أو سلطة بوسائل غير مشروعة أو كسب شخصي على حساب الجمهور، الذي ينظر إليه على أنه لا يمكن معالجته والحد منه بجهد بشري هادف، الدراسة هنا تركز على بيان لماذا يزداد في زمن بعينه ومكان بذاته أو في ثقافة محددة دون سواها، يتضح أثر الفساد على النمو الاقتصادي وينشأ جزئياً بسبب انخفاض مستويات الاستثمار حيث إن الأثر السلبي على الاستثمار يمكن أن يستمد من المخاطر الإضافية التي يضيفها الفساد إلى حسابات المستثمر، التي معه ينخفض النمو الاقتصادي بسبب خفض الإنفاق العام على التعليم الذي يحتاج نصف بالمائة من إجمالي الناتج المحلي والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا الفساد يؤثر في التعليم؟ تفيد البحوث بأن الحكومات المبتلاة بالفساد تنفق نسبياً أموالاً أكثر على البنود التي تيسر ابتزاز الكسب غير المشروع فعندما يكون هناك موظفون عامون فاسدون يمكنهم تحويل نفقات الحكومة إلى المجالات التي يتيسر لهم فيها تحصيل رشاوى بطريقة أسهل وبكميات أكبر ويمكن ضرب المثل في المشروعات الكبرى التي يصعب التحكم في إدارتها مثل المطارات والطرق السريعة حيث يوجد فيها مجال سهلاً للاحتيال، لهذا فإن التعليم ومجالات أخرى تكون النفقات وتوابعها وما يترتب عليها أكثر وضوحاً ومن المفترض أن تكون أقل عرضة للفساد.
يشير إدوارد بانفيلد إلى دور الأسرة والعلاقة الأصلية والراسخة بين أفراد الأسرة، خصوصاً الأبوين والأطفال، تدفعهم إلى إيثار أمور بذاتها ويقول إن الفساد رهن بقوة القيم الأسرية بما في ذلك مشاعر الالتزام القوية، يضيف أيضاً في دراسته التحليلية لمفهوم (النزعة العائلية غير الأخلاقية) التي درسها في جنوب إيطاليا، أن الثقافة التي تعوزها القيم الاجتماعية، لكنها تغرس روابط أسرية, أن الملاحظ على الذين يؤمنون بالنزعة غير الأخلاقية أن لا أحد منهم يدعم مصلحة الجماعة أو المجتمع إلا إذا كانت مصلحته الذاتية تقتضي ذلك، وهذه تؤدي إلى ظهور الفساد لأنها تغرس أسباب الانحراف ومعايير النزعة الشمولية والإدارة، ويؤكد على أن المافيا أوضح مثال.
ويذهب روبرت ميرتون إلى أن الفساد سلوك يحفزه حافز نابع من ضغوط اجتماعية يؤدي إلى انتهاكات معيارية، ويؤكد أن جميع النظم الاجتماعية تحدد لها أهدافاً ثقافية مشرعة من قبل مؤسسات يسعى البشر إلى بلوغها أو إنجازها، الذي يصنفهم ميرتون على أنهم الممتثلون، لكن هذه النظم الاجتماعية تضغط على ممن لا تتوافر لهم الفرص سواء بسبب السلالة أو العرق أو نقص رأس المال أو نقص الموارد المادية أو الموارد البشرية، مما يصعب عليهم تحقيق الغايات ابتداء من دخل مرتفع إلى اعتراف المجتمع. فيجنحون نحو النجاح بوسائل غير المتفق عليها وهذا ما هو حاصل في أمريكا في تفسير اختلافات السلوك المنحرف وبين الطبقات العليا والدنيا والجماعات العرقية المختلفة.
تخلص الدراسة التي قام بها ميرتون وبانفيلد في تفسيرهما للفساد الذي يجمع بين مخطط الوسائل والغايات ونزعة المحاباة العائلية التي تؤدي إلى قصور في تحقيق الغايات المنشودة والمعايير الفردية التخصصية التي جبلت عليها الأسرة إنه سيستمر تأثيرها في سلوك الأمم، لكن إذا هيمنت القيم الاقتصادية الموجهة عقلانياً، وساد القانون في البلدان الأقل تطوراً التي تدعم جهود التطوير فستنخفض مستويات الفساد كما هو الحال في هونج كونج وتايوان وسنغافورة.