عبده الأسمري
تحمل الرسائل التقنية يوميًّا كمًّا مهولاً من التحذير من النكران والتنكر الذي فرض «سوءاته» على المجتمع، وألقى بظلاله السلبية على البشر. وقد امتلأت قصص التاريخ البشري بمئات الدلائل المعروفة على سطوة «الناكرين» للمعروف في نسيان «المواقف»، وتجاهل «الوقفات».. وارتبط ذلك بسوء ردات الفعل التي تحوِّل الإنسان إلى «كائن» متبلد الإحساس، ومتبلد الشعور، عندما يواجه المعروف بالسوء، ويقابل الإحسان بالإساءة.
في عمق المحيا وفق المعاش تقتضي «صفات» الإنسانية و«سمات» البشرية ومقتضيات شرعنا الحنيف أن يكون عنواننا مد يد العون، وبسط أكف الإعانة، وبذل سُبل الإغاثة لرسم ملامح «التعاون» في أبهى الحلل.. فالكل تحت ظل الرحمن، وفي ظلال الرحيم.. ولا يُستثنى أحد من الظروف التي تتنوع ما بين المادية والحياتية والاجتماعية والمعيشية، وشتى صنوف الاحتياج الذي رسمه الاجتياح المفاجئ أو الأزلي في مسائل معينة أو أزمات محددة.
البشر في مواجهة المعروف صنفان: صنف يتصف بالعرفان؛ يرفع أكفّ «الدعاء» في ظهر الغيب، ويحتفظ بالفعل الجميل في الجانب المشرق من الإنصاف، والجزء الأكثر إشراقًا من الاعتراف.. وآخر يسقط في غي النكران عندما يتباهى بزوال غمته، وحينما يزهو بانقضاء حاجته؛ فينسى الموقف النبيل، ويضعه في قبو «التجاهل»، ويرميه في حيز «النسيان»..
من العقل أن لا ينتظر صاحب المعروف إشادة أو مجاملة أو تبجيلاً؛ فالأفعال النبيلة لدى الأكرمين «واجبات»، والمواقف الأصيلة لدى المحسنين «حقوق».. ولكن الهدف من ذلك تأسيس مبدأ العرفان، وتأصيل مفهوم الحسنى.. الذي ورد في الآية الكريمة بقول الله - عز وجل - {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إلا الإِحْسَان}.. وهذا يقتضي ويتوجب اعتراف الإنسان بفضل أخيه.. و«من لا يشكر الناس لا يشكر الله». فالهدف أسمى من مقايضة أمر بأمر، ولكن المعنى في توظيف معاني المحاسن الإنسانية والقيم الدينية.
إنَّ شيوع العرفان في المجتمع منطلق رئيسي ومنبع أساسي لنثر «عبير» التعاضد والتكافل حتى لا تقل «المروءة» وتتلاشى «المنفعة» وصولاً إلى منع طغيان «الحذر» على اتجاهات نفع الناس، وإدخال السرور على الآخرين، وتفريج كرباتهم، التي تعد من أهم وأحب الأعمال إلى رب العالمين، وتتحول من خلالها المجتمعات إلى منصات لتعليم الخير، ومواقع لتصدير السعادة.
الناكرون «كُثر»، وهم مَن قابل سداد «العطايا» في العمل الإنساني المتوج بالمنافع والمروج بالفوائد بسواد «النوايا».. وهم من رسموا «سوءات» الخطايا مع أنفسهم قبل الآخرين.. وأمعنوا في تغافل «جهات» الخيرات؛ لينظروا من زاوية ضيقة، لا يرون فيها سوى أنفسهم وأنانيتهم وتشبثهم بالتنكر البائس الذي همّش وجودهم في مساحة «العدل»، وألغى وجودهم في ساحة «الصدق»..
أما الماكثون في متون «العرفان» فهم اللابثون في ثنايا «الإنسانية»، الماضون في دروب «الموضوعية»، الذين استشرفوا «النبل»، واعترفوا بالفضل؛ فكانوا الحافز البشري والداعم الإنساني في تمدُّد الخير، وتعدُّد الدعم، وتجدُّد الهمم في مساحات المعروف.. وسيبقون «سر» الحصيلة التي أنتجت «جهر» الفضيلة..
يجب أن نشيع ثقافة «الأخلاق» في «ميثاق» التواصل الحياتي بين فئات المجتمع من خلال إشاعة «الاعتراف بالفضل»، و«الإنصاف للنبل»، وأن يكون كل إنسان في مستوى «الأصالة»، وأمام معيار «الثقة» في تعاطيه مع من أسدى إليه معروفًا، أو من قدم له أحسانًا، أو من أهدى إليه نصحًا؛ حتى يكون «الوفاء» مقياسًا، يميز «الفاضل»، ويتوج «المتفضل». ومن ارتمى في مغبة «النكران»، وتاه في غمة «الخذلان»، فسيكون «الندم» مصيره، و«الحسرة» اتجاهه، و«التأنيب» رفيقه.. ولو اعتز بأنانيته، واغتر بذاته، ونسي فعل الغير، وتناسى عمل الآخرين.
البشر «معادن»، ومَن كان أصيلاً فلن يتغيّر مهما تبدل الزمن وتغيّر الحال.. فالأصل الطيب يبقى صامدًا رغمًا عن عواصف الظروف، منطلقًا إلى أفق الحياة من عواطف الذات نحو مشارف المعروف. ومن كان رديئًا فإنه سيصدأ مهما حاول تلميع نفسه أو تأويل رأيه!!
بين العرفان والنكران مسافات شاسعة من البون في سلوك الإنسان ومسلك التعامل ومد «البصائر» وبُعد «المصائر».. فالعرفان أساس لكل الفضائل الصانعة للنقاء، والنكران قعر المسائل المشكلة للجفاء!!