د. حسن بن فهد الهويمل
محنة (المفكر) تكمن في تشابه الأشياء عنده، وعدم قدرته على تمييز المواقف، وتقويم الرجال، وتحديد المنطلقات. ومثلما تتشابه المعنويات، تتشابه المحسوسات: {إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}.
لا أقول التشابه في (عالمنا العربي) وحده، ولا (الإسلامي) عينه من بين من ضاعت بوصلته، بل العالم كله يعيش حالة من الفوضى الفكرية، والدينية، والسياسية، والتحولات السريعة غير المحتملة، وغير المتوقعة. وبخاصة بعد هذا الوباء الذي أضر بكل شيء، وأذهل قادة الفكر، والعلم، والسياسة.
إنها سرعة خطيرة: (كَجِلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيلُ مِنَ عَلِ).
هذه التحولات المفاجئة، والمربكة وضعت صنَّاع القرارات المصيرية في ظلمات بعضها فوق بعض، ظروف عصيبة، أخافت، واستفزت، واستنفرت كل الإمكانيات، حتى يكاد الإنسان يشك في نفسه:
(أَكَادُ أشُكُّ فِي نَفْسِي لِأَنِّي
أكَادُ أشُكُّ فِيكَ وَأَنْتَ مِنِّي)
ساحة الصراعات المتعدِّدة، والمتنوِّعة، لم تبدأ من أرضنا العربية، ولكن أرضنا اختيرت بمكيدة عالم الاستكبار، لتكون مسرحاً لها. وعالمنا المغلوب على أمره يدفع التكاليف: المادية، والمعنوية.
العالم المستبد (أمريكا، وروسيا، والاتحاد الأوربي) له مصالح مشتركة، ومصالح متعارضة، وله خط أحمر في صراعه مع بعضه، لا يمكن تجاوزه. يختلفون، ويصطرعون، ولكنهم متفقون على (المربع الأبدي)، الذي اختاروه لعالمنا، بحيث لا يمكن أن يبرحه الإنسان العربي.
وحتى حين تختلف مصالحهم، ويتنازعون فيما بينهم، تقوم أمتنا بلعب الأدوار كلها، متحملة كل التبعات، دافعة كل النفقات.
ودعك من عوارض الاختلاف الحاصل بين الأخ، وأخيه. والمرء، وزوجه، وتعال ننظر إلى زرع الفتن في أدمغتنا، وعلى أرضنا، والمتمثلة بالتمزيق الحسي، والمعنوي، وخلق العداوات الوهمية، التي تحمل على التنازع، والفشل، وذهاب الريح، والحيلولة دون التقارب.
كان ناسنا أمة واحدة، يسودها الوئام، وتشيع في أرجائها الثقة، ولا تشغلهم إلا العبادة، والتجارة، فجاء (الاستعمار الحديث) ليوقظ فتناً نائمة، ويمزق كيانات متلاحمة، ويفرق جماعات متصالحة.
كنا نبكي من (الاستعمار التقليدي) ولما وقعنا تحت سطوة (الاستعمار الحديث) بكينا عليه بحرقة:-
(رُبَّ يومٍ بَكَيْتُ مِنْه فَلمَّا
صِرْتُ فِي غَيِرْهِ بَكَيْتُ عَلَيْهِ)
لقد كان الاستعمار التقليدي بثكناته، ومناديبه، أرحم من الحكومات العسكرية التي أحلت قومها ردغة الخبال.
خلط الأوراق، وارتباك الفئات المتنفذة يتمثّل في صراع الأفكار، والمصالح، والأحزاب، والطوائف، والأعراق، وهي قائمة على أشدها فوق أرضنا، وفي صدورنا.
لا مشاحة في البيت الواحد تجد أخوين مختلفين، وزوجين مختلفين، ولكنهما يديران الاختلاف باحترافية، ومن ثم يبقى الود ما بقي العتاب.
كنا نعيب اختلاف الأخوين في الرياضة، وتشجيع الأندية، وهو اختلاف لا يضر، ولا ينفع. وها نحن نراهما يصطرعان حول مصير الأمة، وأحوالها الدينية، والسياسية، والفكرية. - أي اختلاف هذا؟ لم نعرفه، ولم نألفه، ولكنه فرض علينا.
على سبيل المثال نجد أن (القضية الفلسطينية) من أعقد القضايا، وأشدها حساسية، يُخَوَّن الناصح، ويُزَكَّى الخائن، وتختلف الآراء حول كل تصرف يمسها، فالناس فيها شيع يضرب بعضهم سمعة بعض. حتى عفَّ كثير من الناصحين، واضطرتهم الفوضى الهدامة إلى اللجوء إلى الصمت.
أضف إلى مصائبنا المذهلة بعض إعلام أمتنا الذي يتعمد خلط الأوراق، وتضليل الرأي العام، وخدمة الأعداء المتسلطين، إنه ينساب كالخدر، ليضرب مفاصل الأمة، ويوهن عزماتها، ويفرق كلماتها، وينشئ العداوات الوهمية، ويفتح الثغرات لأعداء الأمة.
إنه إعلام يتمثّل في قنوات الضرار، ومواقع الخنا، والفجار، لا يراعي المصالح المشتركة، ولا يحفظ الساقة، ولا يرود في المقدمة. لأنه صُنِع على عين العدو، ونهض لتحقيق مصالحة.
وأخطر شيء على الأمة تَشَكُّل النسيج الثقافي من هذا الطفح الإعلامي الرخيص.
قادة الفكر في لجَّة صوتية، لا يستبين المستمع كلماتها، والطريدة لم تعد تملك ردة الفعل، ومع هذا فالصياد الجشع يأتيها من كل جوانبها، كما الشيطان: {لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}. ولم يقل الذكر الحكيم، و(من فوقهم) لأن هذه الجهة هي صلة المظلوم بربه.
خلط الأوراق يتمثّل في ارتباك النخب، وعدم قدرتهم على تمييز المواقف، والأشخاص، ووقوعهم في المحذور. يثبطون عزمات أمتهم، ويربكون مسيرتها، ويروِّضونها لمصالح الأعداء، وإذا تصديت لهم قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون}. والحق {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُون}.
إنه زمن التيه، والتنازع المفشل. غمة لا يرفعها إلا من بيده مقاليد الأمور: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ}. مشيئتك اللهم الخير المنقذ لأمة أنهكها المسير، فلا هي قطعت أرضاً، ولا هي أبقت ظَهْراً، لقد بلغ السيل الزبى، وهم بأمتنا من لا يرقى إلى أمجادها، وتاريخها العريق.