عبدالرحمن الحبيب
غريس جرونر صارت يتيمة في سن الثانية عشرة. لم يكن لديها أطفال، ولم تقد سيارة قط. عاشت معظم حياتها بمفردها في منزل من غرفة نوم واحدة وعملت طوال حياتها كسكرتيرة. كانت سيدة جميلة وعاشت حياة متواضعة وهادئة. بعد وفاتها عام 2010 عن عمر 100 عام تركت مبلغ 7 ملايين دولار للأعمال الخيرية. تساءل الناس الذين يعرفونها بحيرة: من أين حصلت على هذه الأموال الطائلة؟ لم يكن هناك سر غامض ولا ميراث؛ كل ما في الأمر أنها حصلت على مدخرات متواضعة من راتبها الضئيل وتمتعت بثمانين عامًا من عدم التدخل في سوق الأسهم، فتنامت ثروتها.
بعد أسابيع من وفاة جريس، ظهرت قصة استثمار في الأخبار لا صلة لها بالأولى لكنها نقيضها؛ فقد أعلن ريتشارد فوسكون، رجل الأعمال السابق وأحد الأثرياء، الإفلاس الشخصي. على عكس غريس تلقى فوسكون تعليمه بأرقى جامعات العالم في هارفارد وجامعة شيكاغو، وأصبح ناجحًا للغاية في الاستثمار لدرجة أنه تقاعد في الأربعينيات من عمره «لمتابعة المصالح الشخصية والخيرية». لكن الاقتراض الثقيل والاستثمارات غير السائلة أطاحت به. في نفس العام الذي تركت فيه غريس ثروة حقيقية للأعمال الخيرية، وقف ريتشارد أمام قاضي الإفلاس وأعلن: «لقد دمرتني الأزمة المالية.. مصدر السيولة الوحيد هو ما يمكن لزوجتي بيعه من المفروشات الشخصية».
ليس الغرض من القصتين أخذ العبرة إنما لإظهار أن إدارة الأموال لا تتعلق بالضرورة بما تعرفه وتعلمته؛ بل بالطريقة التي تتصرف بها. دراسة التمويل والاستثمار المالي تتطرق لما يجب فعله، وليس ما يحدث في رأسك عندما تستثمر.. هذا ما يقوله الكاتب مورجان هاوسل مؤلف كتاب «علم النفس المالي» (The Psychology of Money) الذي صدر هذا الشهر. الكتاب يقدم دروساً غير تقليدية عن الثروة والجشع والسعادة.. موضحاً أنه من الصعب تعليم السلوك أكاديمياً، حتى للأشخاص الأذكياء، بل إن أذكى الناس يتجاهلون تحيزاتهم وسلوكياتهم المؤثرة سلبًا في نتائج استثماراتهم.
يحاول هاوسل استكشاف «نفسية الاستثمار» والسلوكيات البديهية والمعقدة، مقدماً طرق تجنب المزالق السلوكية، ورؤى تنويرية حول كيفية تفكيرك أنت وعملائك في المخاطر بطريقة أكثر إنتاجية لاتخاذ قرارات استثمارية أفضل؛ ذاكراً أنه عادةً ما يتم تدريس الأموال (الاستثمار والتمويل الشخصي وقرارات الأعمال) كحقل قائم على الرياضيات، تخبرنا به البيانات والمعادلات بالضبط بما يجب القيام به، لكن في العالم الحقيقي لا يتخذ الأشخاص قرارات مالية بناءً على جدول بيانات، بل يتخذونها على مائدة الطعام، أو خلال الدردشة في غرفة الاجتماعات، حيث يتم خلط تاريخك الشخصي، ونظرتك الفريدة للعالم، والأنا، والكبرياء والاعتزاز، والتسويق، والحوافز الفردية معًا.
لا يوجد مجال آخر يمكن أن تكون فيه قصص مماثلة لغريس وريتشارد مثل مجال إدارة الأموال.. ما هو المجال الآخر الذي يتفوق شخص ليس لديه تعليم، ولا خبرة بالمجال، ولا موارد، ولا اتصالات كبيرة على شخص لديه أفضل تعليم، وخبرات، وأفضل الموارد وأفضل الاتصالات؟ لن تكون هناك أبدًا قصة تقوم بها غريس جرونر بإجراء جراحة قلب أفضل من طبيب قلب متدرب في جامعة هارفارد؛ أو بناء شريحة أسرع من مهندسي أبل.. هذا لا يمكن تصوره، لكن هذه القصص تحدث في الاستثمار، حسب المؤلف.
يطرح المؤلف 19 فكرة مع قصص قصيرة تستكشف الطرق الغريبة التي يفكر بها الناس بشأن المال ويعطيك إدراكاً أفضل للتعامل مع المال.. منها مغالطة النجاح المكتسب والفشل المستحق عبر تقليل دور الحظ والمجازفة، والفشل في إدراك أن الحظ والمجازفة وجهان مختلفان لعملة واحدة.. ومنها متلازمة تجنب التكلفة عبر الفشل في تحديد التكاليف الحقيقية للموقف، والتركيز المفرط على التكاليف المالية وتجاهل السعر العاطفي والاجتماعي الذي يجب دفعه للفوز بمكافأة.
كما يطرح مغالطات عديدة كالتحيز المرتبط بتجاربك الشخصية بينما تاريخك الشخصي يشكل واحد من مليار مما حدث بالعالم لكنه قد يشكل 80 في المائة من طريقة تفكيرك في سير العالم. ومغالطة الاحتكام إلى الأوساط الأكاديمية في مجال لا تحكمه قواعد واضحة بل اتجاهات فضفاضة ومفاجئة يكاد يستحيل توقعها. يوضح المؤلف أن المؤرخين فاشلون في التوقعات: عدم رؤية المفارقة من أن التاريخ هو دراسة المفاجآت والتغييرات، بدلاً مع استخدامه كدليل ثابت للمستقبل. كذلك مغالطة الاعتماد المفرط على البيانات السابقة كإشارة إلى الظروف المستقبلية في مجال يكون فيه الابتكار والتغيير شريان الحياة للتقدم.
نختمها هنا بتنبه المؤلف أن المنفعة الاجتماعية للأموال تأتي على حساب مباشر لنمو المال؛ فالثروة هي ما لا تراه. كادت المغنية المشهورة ريهانا أن تنهار بعد الإنفاق الزائد ورفعت دعوى قضائية ضد مستشارها المالي. أجاب المستشار: «هل كان من الضروري حقًا إخبارها أنك إذا أنفقت المال على الأشياء، فسينتهي بك الأمر بالأشياء وليس المال؟» يمكنك الضحك، لكن الحقيقة هي، نعم، يجب إخبار الناس بذلك، كما يقول المؤلف. عندما يقول معظم الناس إنهم يريدون أن يصبحوا مليونيرات، فما يقصدونه حقًا هو «أريد أن أنفق مليون دولار»، وهو حرفياً عكس كونك مليونيراً. هذا ينطبق بشكل خاص على الشباب.