اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إن المتتبع لتاريخ إسرائيل منذ أن تأسست على أرض فلسطين قبل ما يزيد عن سبعة عقود وحتى الآن يتضح له بجلاء أن القائمين على هذا الكيان لم يتركوا طريقاً إلا طرقوه، ولا وسيلة إلا توسلوها في سبيل بناء الدولة اليهودية على كامل الأراضي الفلسطينية، والتوسع على حساب الجوار العربي، كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وما لم يتم تحقيقه بالقوة العسكرية والعنف تحقق بالسياسة والاستيطان والاعتماد على القوى الخارجية.
ومن خلال الصراع المسلح ووسائل أخرى ركزت إسرائيل على محاولات تدمير الانتماء القومي العربي والحد من تأثير الانتماء الديني الذي يشكل بدوره مرجعية للقومية العربية مع السعي الحثيث لإبطال مفعول المزايا التي يتمتع بها العرب، خاصة الكثافة السكانية والمساحة الجغرافية والإمكانات الاقتصادية والقيم المعنوية وغيرها.
وبمجرد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل حصلت الأخيرة على الكثير مما أرادت فيما يتعلق بإضعاف دور القومية العربية على النحو الذي لم يعد معه وجود لدول المواجهة، وانفصلت فلسطين عن عمقها العربي وتفردت بها إسرائيل، بعد أن فقد الصراع العربي الإسرائيلي معناه، وأصبحت الأمة العربية شبه ممزقة، والروح القومية التي تخاف منها إسرائيل باتت في مهب الريح.
ومن الواضح أن الكيان الإسرائيلي مثلما عرف كيف يتعامل مع مرحلة الصراع عسكرياً وسياسياً واستيطانياً عرف أيضاً طريقة التعامل مع هذه المرحلة، مستثمراً ثوابتها ومتغيراتها لصالحه، رغم أنه هو الذي أفشل الاتفاقيات وتحايل عليها، متوجاً ما أنجزه في السابق بإنجاز لاحق، وذلك من خلال تحييد العرب وتصفية دورهم وتكريس الاحتلال والتوسع وفرض الأمر الواقع، تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية الكبرى.
وعلى الجانب المقابل فإن العرب فشلوا فشلاً ذريعاً في مرحلة الصراع المسلح وتوالت عليهم الهزائم فيما يعرف بجولات الحرب الثلاث سيئة الذكر، دون أن يشفع لهم ما يمتلكونه من إمكانات ويتوفر لديهم من قدرات سياسية وعسكرية واقتصادية، متحولاً محيطهم المائي الهادر إلى بحيرات متناثرة معزولة عن بعضها البعض وبهذه النتيجة انتهت مرحلة الصراع السابق بما فيها من فضائح وتخللها من جوائح، واجترار أحداثها يقود إلى جلد الذات ونكاية الجراح.
ورغم أن الأمة العربية لا تزال تنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها ذات أولوية بالنسبة لها، إلا أن الصراع العربي الإسرائيلي تغير مفهومه، ولم يعد صراعاً بالمعنى الحقيقي بعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية وما عقبها من إعلان المبادرة العربية واتفاقيات أوسلو حيث تحولت القضية من شأن عربي إلى شأن فلسطيني خاص، ولم يعد ينطبق عليها ما كان صالحاً تطبيقه وسارياً مفعوله قبل هذه الاتفاقيات والمبادرات.
والمبادرة العربية التي بادرت بها المملكة وتبنتها الدول العربية، وما يدور في فلكها من حلول سياسية يعتبر ذلك أفضل مرجعية يمكن أن يرجع إليها، حيث إن التكيف مع مضمون المبادرة والإصرار على تنفيذها هو الحل الأمثل والضمانة الأكيدة للخروج من الطريق المسدود الذي وصلت إليه الأمور بعيداً عن الصراخ والضجيج والعزف على أوتار الصراع الذي تخطاه الزمن وأصبح مدعاة للضياع.
ولكن يبدو أن بعض القيادات الفلسطينية لم يستوعب دروس المرحلة السابقة حيث لم يتكيف مع المستجدات والمتغيرات التي طرأت على القضية بسبب انفصال هذه القيادات عن عمقها وبعدها عن شعبها، ناهيك عن كثرة خلافاتها، وانقسامها على نفسها، والتبعية المفروضة عليها جراء تحالفاتها الخارجية وأجندتها السرية مع طغيان المصالح الخاصة على مصلحة القضية.
ومطلوب من هذه القيادات أن تدرك أن دخول إيران وحزب (اللات) على الخط عبر خدعة ما يعرف بالممانعة والسير في ركاب الإرهاب ورعاته هو الذي جعل الأمور تصل إلى ما وصلت إليه، فالارتماء في أحضان إيران كان ذلك مدعاة لأن يتساءل البعض عما يريد أولئك القوم الذين يلتمسون مناصرة قضيتهم ممن دمّر العراق وسوريا ولبنان واليمن وهي إيران، منخدعين بالشعارات الكاذبة والمزايدات الخائبة التي دأبت إيران على المتاجرة بها وترديدها، إمعاناً منها في التدليس والتلبيس لتنفيذ مخططها الصفوي الذي يخدم المخطط الصهيوني والاستعماري للسيطرة على المنطقة العربية، وقد قال الشاعر:
من يستعن يوماً بذي عداوته
يزداد بعداً من قضاء حاجته
وقال آخر:
إذا العدو أحاجته الإخا عللُ
عادت عداوته عند انقضا العلل
وقد نسي المواطن الفلسطيني الذي يتألم الجميع لآلامه ويشعر بمعاناته أنه بارتمائه في أحضان إيران والتجني على إخوانه العرب أساء لانتمائه الديني وتنكر لانتمائه القومي وظلم أخاه الذي دائماً يمد له يد العون والمساعدة كلما نابته نائبة، وحلت بساحته جائحة، وأدهى وأمر من ذلك أنه ظاهر عدواً - لا تقل عداوته عن عداوة إسرائيل - ضد أبناء جلدته وعمومته، متجاهلاً ردة الفعل العادلة التي تسمح بالمجازاة بالمثل، انطلاقاً من القاعدة التي مفادها أن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وقد قال الشاعر:
لا ترضى للإخوان غير الذي
ترضى به إن ناب أمر جليل
والذي يطلب من الآخرين مناصرته في قضيته لابد أن يقدر مواقفهم ويستأنس برأيهم بدلاً من تخوينهم والإساءة إليهم واتخاذهم شماعة يعلق عليها أسباب فشله وخبث عمله، والمملكة ممثلة في قياداتها المتعاقبة وقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني منذ بداية محنته وحتى الآن، مضحية بكل ما يمكن التضحية به مالياً وسياسياً ومعنوياً رغم ما تعانيه من التنكر والجحود من بعض المحسوبين على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، متأسية بقول الشاعر:
وحسبك من جهل وسوء صنيعةٍ
معاداة ذي القربى وإن قيل قاطع
والمتاجرة بالقضية الفلسطينية من خلال الكلام والتعامل مع الأحلام، أصبح من الأمور غير المقبولة، ولم يعد له مكان في هذا الزمن المحفوف بالمخاطر والمليء بالمفاجآت غير السارة، والقوى المتربصة بالأمة لخدمة الاستعمار تقتنص الفرص لتكملة ما بدأته من عدوان، فالكيان الصهيوني يتطلع إلى دولته الكبرى والهيمنة على المنطقة، ونظام الملالي والنظام التركي يخدمان هذا التطلع الاستعماري طمعاً في مكاسب جيو- سياسية على حساب الوطن العربي، والمبادرة العربية والنضال السلمي المشروع والصبر على متاعب السياسة يكمن فيها الحل وقد قال: نابليون أسوأ شيء في السياسة الشروع بعمل ثم تركه ناقصاً.