أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
كان مجلس الشورى قد أصدرَ نظامًا لإنشاء (مجمع للغة العربيَّة) في المملكة، قبل أكثر من أربعة عشر عامًا. وهذا حلم قديم تحقَّق إقراره اليوم. والمؤمَّل أن ينهض مجمعنا المنشود (مجمع الملك سلمان العالميُّ للغة العربيَّة) -الذي بشَّرت به (وزارة الثقافة) منذ حين، وأُقِرَّ إنشاؤه من مجلس الوزراء مؤخَّرًا- أن ينهض على أُسسٍ جديدة، وبقُدرات تتناسب مع أهميَّته، ومع مكانة المملكة، وما تُعقَد عليها من آمال، وأن يفيد من خبرات المجامع العربيَّة التي سبقتنا في هذا المضمار. كذلك يَحْسُن الرجوع إلى النظام المشار إليه، المقرّ من مجلس الشورى، ويُجرَى تجديده والإضافة إليه؛ فلقد أَعَدَّه نُخبةٌ من كبار المتخصِّصين في هذا المجال، عِلميًّا ونظاميًّا، ولا بدَّ أن في ذلك الجهد ما يفيد في المشروع الجديد، لكي تكون الجهود تواصلية، ولا تبدأ كلُّ مبادرة من الصِّفر، بل على أساس ما هو مؤسَّس وجاهز نظاميًّا. قد يقال: إن لغتنا لم تنتج فكرًا حضاريًّا معاصرًا يعزِّز قيمتها وحضورها بين اللغات الأخرى، وهذا سبب ضعفها وتعثُّرها وتبعيَّتها. وهذا صحيح، غير أن الفكر الحضاري، أو الصناعي، الذي يعزِّز قيمة اللغة وحضورها بين اللغات الأخرى، هو جانبٌ تعزيزيٌّ لقيمة اللغة وحضورها. وقبل ذلك ينبغي أن تكون تلك اللغة صالحة، وحيَّةَ الحضور بين أهلها أوَّلًا. ثمَّ تأتي المعزِّزات الحضارية لترسيخها ونشرها. وهناك كيانات، كالاحتلال الصهيوني، أحيت لغتها «الميِّتة» منذ آلاف السنين- مع أنها حتى في تاريخها القديم كانت لغةً بدائيَّةً ومحدودةً جدًّا، تكاد تنحصر في الشعائر الدِّينيَّة- ومن ثَمَّ جعلتها في الواقع المعاصر لغة التعليم والصناعة والتداول الحضاري لدَى أهلها. فلا تتأتَّى هذه العمليَّة بالمقلوب، إذن، وكأننا نجعل العربة أمام الحصان! والأساس أنْ ليس ثمَّة إبداعٌ ولا فِكرٌ بلا لُغةٍ قوميَّةٍ صالحةٍ لنهوض الإبداع والفكر.
على أن الجدليَّة الدارجة تقول: إن مجامع اللغة العربية، على كثرتها واختلافها، قد فشلت في تحقيق أهدافها، فلماذا نكرِّر التجربة؟
وهذه الحُجَّة تنطلق من منطلقات مغلوطة. ذلك أن فشل تجربة لا يعني الحكم بالفشل الحتمي، بل تجب دراسة أسباب الفشل. ويجب الاعتراف هنا أن المجامع اللغويَّة -مع إشكالاتٍ كثير- واقعة بين طائفتين، أُولاهما ترى اللغة ما قاله الأوائل ولا زيادة عليه لمستزيد، والأخرى ترى الإبداع يتعارض مع مشاريع المجامع اللغوية، متناسيةً جهودها في خدمة اللغة العربيَّة وتراثها، محمِّلةً إيَّاها فشل غيرها من الجهات التنفيذيَّة لقراراتها، أو بالأصح المستخفَّة بتلك القرارات.
إنَّ من غير المقبول الانتظار حتى تصبح الأمَّة العربيَّة أُمَّةً صناعيَّةً لتكون الأُمَّة العربيَّة ذات لغةٍ محترمةٍ في العالم، وقبل هذا راسخة بين أهلها وفي أوطانها. إضافةً إلى أنَّ للمجامع أدوارًا متنوِّعةً في حفظ اللغة، وإحياء التراث، ونقل العلوم والمعارف عبر الترجمة، والتعريب، والمواكبة الاصطلاحيَّة للمستجدات في ميادين الصناعات والتقنيات.
ومهددات اللغة العربيَّة كثيرة جِدًّا اليوم، من داخلها ومن خارجها. من داخلها هناك اللهجات العاميَّة، الطاغية الآن، حتى على الإعلام والتعليم. وهناك ضعف التعليم في مجال اللغة العربيَّة. التعليم الذي يستخدم العاميَّة، أو يستخدم لغة أجنبيَّة، ربما في تعليم اللغة العربيَّة نفسها! وشرُّ البليَّة ما يُضحِك. وهناك الإعلام، الذي انحدر سنوات ضوئيَّة عن ماضيه قبل بضعة عقود، من حيث الحرص على سلامة اللغة. والإعلام بالغ التأثير على اللغة العربيَّة المتداولة بين الناس. وثمَّةَ وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت مؤثِّرة كثيرًا، ولاسيما على الأطفال والناشئة. أمَّا خارجيًّا، فاللغات الأجنبيَّة هي السائدة في التعليم، ولا سيما الجامعي، وفي كثيرٍ من المرافق، وفي عُقر دار العرب. كأنَّنا أُمَّة بلا هويَّة، ولا لغة، ولا ثقافة. واللغات الأجنبيَّة تُستعمَل بغير ضرورة في معظم الأحيان، غير أنَّها عُقَد النقص الحضاري، وعدم الوعي بضرر ذلك على الهويَّة واللغة والثقافة؛ بحيث أصبح العربيُّ مجرد تابعٍ منصاعٍ لغيره، من الغرب والشرق، بلا شخصية، ولا استقلال، ولا لغة يستعملها، حتى مع بني قومه.
أمَّا هل يكفي أن تُدْرَس اللغة دون جعلها لغة عملٍ وعِلمٍ وابتكارٍ وصناعةٍ وثقافةٍ وإعلام؟ فلا، لا يكفي ذلك، للوصول إلى الغايات المُثلَى. لكنها خطوة على الطريق، وهي أساسيَّة لبلوغ الغايات المُثلَى، من خلال التعريب، وجعل العربيَّة لغة الثقافة، والإعلام، والعِلم، والعمل، ومواكبة المصطلحات الحديثة.
وبحسب المعلن عن مشروع المجمع اللغوي، فإنَّه يُنعَت بـ«العالمي». وهذا يشير إلى رؤية- نأمل أن تتحقَّق- في ربط اللغة العربيَّة بالعالَم، من خلال التعريب والترجمة، ومن خلال إعطاء المجمع بُعدًا عالميًّا، بوصف اللغة العربيَّة لغة عالميَّة. يعترف بها العالَم، وكثيرًا ما يتنكَّر لها أبناؤها. كما أن صفة «العالميَّة» توحي بالرغبة في تجاوز العثرات في مجامع اللغة الأخرى. وهذا ما طالبنا به وتطلَّعنا إليه طويلًا.
أنْ تصل متأخِّرًا، وبطموح أعلى من السابقين، هو ما يغفر تأخُّرك.. بل قد يجعل له معنى متجاوزًا. وهذا ما نرجوه.