د. صالح بن سعد اللحيدان
العقل مقياس جيد لكلام الإنسان، الرجل والمرأة سواء. وأياً كان الأمر فإنَّ هذا المقياس قد يعتريه الخطأ، ويحوفه الزللُ، وقد يكون هذا «العقل» مُشبعاً بما لا يحسن أن يكون؛ فيقعُ «العقل» تلقائياً أسير العاطفة تلك التي توغل في «الخطأ»، لكن إذا كان «العقلُ» ذا تربية سليمة مُتكئة على قاعدة صلبة من خلق قويم، وطبع جيد صحيح، فإنه يصل بصاحبه إلى سلوك السبيل الواضح المبين. وكتابة التاريخ لا تخضع للاجتهاد، كذلك كتابة «الروايات» والأخبار.. لا تخضع كلها مع الآثار للاجتهاد؛ لأن الناس يرغبون ويسعون جاهدين جادين إلى الصحيح مما يكتبه الكاتبون، ويدونه المدونون من مؤرخين وإخباريين. والمشكلة أمام العقل هي النقل المتتالي؛ فكلٌّ ينقل من هنا وهنا، كأن الحال حال خواطر وروايات عجولة كيفما اتُّفق، ثم يأتي المتأخرون فيصدقون ما يطالعونه في أسفار الأولين. ألا ترى الكثرة والاستشهاد من كتاب (الأغاني) و(مروج الذهب)؟ هناك حالة بدأت منذ أمد بعيد، تلك هي عدم الاهتمام بالسند؛ لأن هذا فيه تشديد في الروايات، وتشدُّد في السير وكتابة التاريخ, ولكن حينما أستعرض قضية واحدة فقط فسوف يدرك الناس كم هي مهمة مسألة «حدثنا فلان عن فلان عن فلان»، مسألة السند المتصل بسلسلة الرواة الثقات. هذه القضية كمثال قائم تبيّن الألم الذي حصل بعد كشف الحقيقة.
(الأبواء)، تلك التي ذكرت بعض كتب الأخبار أن قبر (آمنة بنت وهب) أم النبي - صلى الله عليه وسلم - هناك في منطقة (الأبواء)، فلم يزل كثير من الناس يترددون على هذا الموضع لزيارة (القبر)، ثم تبيّن بعد دهر أنه ليس كذلك؛ وذلك لسقوط الرواية أصلاً بسقوط السند من أصله. فعند إمام المحدثين (الطبراني) في (المعجم الأوسط) عن ابن مسعود أن لا قبر هناك، ولم يزُر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك المكان لزيارة قبرٍ ما. هذا مثال يُغني عن كل مثال، ولا كلام.
إذاً السند بابٌ مُهم، ولا يصح في (دنيا العقل الحر النزيه الصادق) أن نقرأ ونقرأ دون تحقق وتثبت حتى ولو كان الأمر بيت شعر، أو قصة ،أو رواية، أو أقصوصة مثلاً.. ولا يدخل الخيال الروائي والقصصي في الخيال المسرحي في حالات وأمور ثبت فيها نص، ولاسيما فيما يتعلق بالأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - وكذا (الصحابة)؛ لأنهم الرواة لسياسة الحياة عبادة ومعاملة؛ فلا بد من الوقوف على السند بساند من متن كريم صادق أمين. وقد يتم التساهل فيما دون ذلك بشيء من الحذر الشديد؛ لأن العقل والأمانة كل ذلك يستدعي شدة التثبت والتوقي حتى يثق القارئ والمجامع العلمية ودور النشر الحرة الجيدة والهيئات المعينة للجوائز.
يشق الكل بما بين أيديهم من أعمال، ولست على مثل هذا بكفيل، ولست على مثله بمسند من دليل مقيم، لكن ما ضربته من أمثله يجعل من يطالع هذا مني كأنه على سفح جبل لا يريم؛ ذلك أن الأمثلة على ضرورة التثبت والتوقي في كتابة التاريخ والروايات تعطي ذلك التجربة، والتجربة المادية تغني عن الدليل؛ ولهذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعدة تدوَّن في صناعة الحياة، حسها ومعناها، في حال الرؤية, والرواية, والخبر, والشهادة, فقال - صلى الله عليه وسلم -: (على مثلها فاشهد). وجاء قبل ذلك في المنزل الكريم: {وإنها لبسبيل مقيم}، أي الآثار البالية باقية للاعتبار، وليست رواية أو خبراً في سطر يبيد، أو هي سطور تزول مع السنين.
فالسند دال على صدق الخبر.. السند إذا كان ثقة وبرجال معروفين بالتثبت والأمانة والصدق والدين، وشاع عنهم هذا في كتب (تراجم الرجال) و(أحوال الرواة)، وإلا فلو شاء من شاء لقال ما شاء، لكن ليس كذلك. وطالع إن شئت (تهذيب الكمال) للمزي، وهذا في أسماء الرجال الرواة، وكذا (الطبقات الكبرى) لابن سعد كذلك، و(كتب تراجم الرجال بين الجرح والتعديل) لكاتب هذه الأسطر.