د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
ويعود الشاعر إلى مخاطبة ذلك الساري الذي عرف وما غرف فكان في عالم اختلت فيه موازين العقل مجنونا وغيره هو العاقل، ولم يبق له إلا الإغماض على كراهة:
يأَيُّها الْمُغْضي عَلى حَسَكٍ
قَلْبًا يَذُوبُ وَدَمْعَةً تَكِفُ
إن السكوت على أمر مؤلم كإطباق الجفنين على الشوك وما يلازمهما من حزن عميق وعبرات، وعن الحسك «قَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ عشبة تضرب إِلَى الصُّفْرَة وَلها شوك يُسمى الحَسَكَ أَيْضا، مدحرج لَا يكَاد أحد يمشي فِيهِ إِذا يبس إِلَّا من فِي رجلَيْهِ خف أَو نعل»(1).
شارَفْتَ ياءَ الْعُمْرِ فانْبَعَثَتْ
ذِكَرٌ يَجُرُّ نَظيمَها الأَلِفُ
يكني الشاعر بياء العمر عن نهاية رحلة العمر إذ لما اقتربت بدأت الذكريات تعاوده متوالية منظومة منذ بدايتها وكنى عن البداية بالألف ليطابق بذلك الياء. أكان السكوت والإغضاء أملًا في غد صالح؟
تَرْجو غَدًا، وغَدٌ مُخَدّرَةٌ
قَدْ أُرْخِيَتْ مِنْ دُنِها السُّجُفُ
خَفِيَتْ، فَلا هِيَ كاعِبٌ غَنِجٌ
يُدْرى بِها أَمْ عاقِرٌ نَصَفُ
ترجو غدًا مجهولًا كضعينة غابت في خدرها، قال الرازي «وَجَارِيَةٌ (مُخَدَّرَةٌ) إِذَا لَزِمَتِ الْخِدْرَ»(2).
والسُّجُفُ جمع سِجاف وهو الستر من شقين(3). وصور الشاعر الغد في صورة الضعينة باستعارته (مخدرة)، وما دامت مخدرة فلا أحد يعلم كيف هي فقد تكون كاعبًا «وهي الجارية حين يبدو ثَدْيُها للنُهود»(4). ووصف الكاعب بغنِج هو من الغُنْج، قال ابن دريد «الغُنْج: التكسُّر والتدلُّل غنِجَتِ الْجَارِيَة غُنْجًا وتَغَنَّجَتْ تَغَنُّجًا وَجَارِيَة مِغْناج»(5). والمثبت في المعجمات (غنِجة) بالتاء، قال الجوهري، «وقد غَنِجَتِ الجاريةُ غَنَجًا وتَغَنَّجَتْ، فهي غَنِجَةٌ»(6). ولم أجدها مجردة إلا في نوادر أبي مسحل إن صحت، «ويقال للمرأة: امرأة غنج، وجارية غنج، وأغناج، إذا كانت ذا شكل ودل»(7). وربما أغرى أستاذنا بهذا الاستعمال كون الغنج صفة تستبد به المرأة. وقد تكون المخدرة عاقرًا، قال الرازي «وَ(الْعَاقِرُ) الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تَحْبَلُ»(8). وهي نصف، قال ابن سيده «وقيل النَّصَفُ من النِّساءِ التي قد بَلَغَتْ خَمْسًا وأربعينَ ونحوها وقيل التي بَلَغَتْ خَمْسين»(9).
فإن كان حالك أمرها دنيا غلب عليها من غلب وانتظرت غدًا مجهولًا فعلام كان سراك وارتجاف خطاك وحيرتك؟
ماذا تُرى يُجْديكَ إِن رَّجَفَتْ
مِنْكَ الخُطا وَتَحَيَّرَ الهَدَفُ
أَمُعانِدًا؟ والقَولُ مُسْتَبَقٌ!
رُفِعَ اليَراعُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ
نعم ما الذي ينفع الخوف والوجل والحيرة في طلب الهدف؟ لم تعاند قدرك الذي كتب وما لتغييره من سبيل، وأما قوله (مُستبق) فهو اسم مفعول من الفعل (استبق) وهو فعل لازم لا يكون منه اسم مفعول من غير قيد، والفعل أيضًا يقتضي فاعلين، قال تعالى {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [25-يوسف]، ولعل أستاذنا عامل استبق معاملة مجرده، وبعض الأفعال استعملت هذا الاستعمال، قال سيبويه «وقالوا: قَرّأْتُ وَاقْتَرَأْتُ، يُريدونَ شَيْئًا واحِدًا، كَما قالوا: عَلاه وَاسْتَعْلاهُ. وَمِثْلُهُ خَطِفَ وَاخْتَطَفَ»(10). وقوله (رفع اليراع وجفت الصحف) مأخوذ من الحديث الشريف «رُفِعَتِ الْأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»(11).
... ... ...
(1)ابن سيده، المحكم والمحيط الأعظم، 3: 34.
(2) الرازي، مختار الصحاح، ص: 88.
(3) الزبيدي، تاج العروس، 23: 414.
(4) الفارابي، منتخب من صحاح الجوهري، ص: 4470.
(5)ابن دريد، جمهرة اللغة، 1: 487.
(6)الجوهري، الصحاح، 1: 332.
(7) أبو مسحل، نوادر أبي مسحل، ص: 30، بترقيم الشاملة آليا.
(8) الرازي، مختار الصحاح، ص: 214.
(9) ابن سيده، المحكم والمحيط الأعظم، 8: 340.
(10) سيبويه، الكتاب، 4: 74.
(11) مسند أحمد، ط الرسالة، 4: 410.
(وللكلام صلة)