تكونُ وأنتَ ما أنت في الذروةِ العُليا من تعلُّقٍ فيكَ إلى ما تقنعُ إليه، فإذا ما كان هذا الذي ذريّتهُ العلياء وقد مُـزِج بالأشخاص امتزاج الشيء بالشيء فصار ما فيكَ من فكرةٍ وما أنتَ عليه من مبدأِ أمرٍ أو مُنتهاه، ما هو إلا بضعٌ من صورةِ هذا الذي عُـلِّقته فكأن مبادئَكَ فُلان وأسمى مآثِرك هي ما كان عليه هذا الفُلان... ثم ماذا؟... ثم يعقُبُ العلـوَّ هذا سقوط، وما تلك إلا آفةُ البشر؛ وهل كَمُلُوا إلا لينقُصوا؟ وهل وُصِلوا إلا ليُقطَعوا؟ فإذا سقط قِدِّيسك هذا وغايتُك المُثلى سقطتْ معَهُ حاجاتُ نفسِك وضلّت من مَراميها أسهُمُك فإذا أنت وقد خابَ مرماك، وإذا أنت قد ضلّ عن هديٍ سيرُ مسْعاك... فلا الفكرة التي كُنتَ عليها قد غدت فكرة، ولا الرأيُ الذي كنت تتخذُهُ قد رنا إلى صواب... بل الكُل عندك قد سقط... فضُـرِبَ في نابلك حابِـلُك، وجاسَ في هداك شعَـثُكَ... فقُل لي حينها ما أنت؟ أأنت ما كُنتَ عليه؟ أم إنك الجديد الذي صرتَ إليه... أم إن الذي كان ليس أنت، والذي صار... هو الآخر، بِضعٌ من سواك، لا منك... أم... ؟ لا... دعني أُسائِـلُك: هذا المبدأ وهذا الرأي الذي كُنتَ عليه، لو أن صاحِبك الذي ربطته به لم يسقُط، ولا يزال في ذُراه يصول ويسعى، أتُغيّـر من الذي كُنتَ عليه؟
ستقول: «لا»؟... وإن أصابك شيءٌ من شجاعة وقُلتها فقُل لي حينها... «لا» و»لا» هذه التي تصكّ عليها أسنانك، ألا تعني أن ما كُنت عليه كان مهزوزاً، وأن قوته ما كانت بقوة، ولكنها صورةٌ من قوة قد تمثّلت لك في صورة «الرمز»، ووسيلة منك، قد تمثلت «غايتُها» في رجلك الأمثل وصاحبك الأوفى؟...
* * * *
إن الإشكال الذي يقع من الذين قد عمِدُوا إلى مذهبٍ من القول أو مسلَكٍ من فعل وفكر، ما هو إلا أنه من قبيل هذا... فكم من واحدٍ كان من المحسوبين على أهلِ جماعةٍ أو فرقة فإذا ما ولّت ولّى معها كل ما يحمله، أو ذاك الذي قرَن ما هو عليه بمُعلّمٍ أو صاحب فكرٍ، ثم وقع في ما يُنقض ما كان يُنادي به. إن هذا الإشكال لهو نابِعٌ من لا تأسيس ولا ترسيخ يكون قد تمكّن من صاحبه، وأن ما هو فيه ما هو إلا ضجيجٌ من عواطف قد اجتمعت في نفسه، ثم إلى هذا الصاحب قد امتثلت وخبروني. ولنأتي على أكثر ما نراه اليوم من نزعٍ لحجاب من تلكُم المرأة، أو تقلب رأي من ذلكم الرجل، كم من واحدة تأثرت بالأولى فإذا هي تنظر إلى حجابها نظر الماقتِ إلى سيئ الأمرِ في الحين الذي كانت قبل نزع صاحبتها تراه غاية الفِخار وأُمثولة الكمال ثم تصر عليه وإن ثناها كلُّ ذي ثني... ثم ما هي الآن، أوَ ما تراها تُهز من أول منعطف، وتُكسر من أول كلمةٍ تُقال لها، وقد كانت من قبل إذا قيلت لها فإنها الواقفة أمام رياحها بخير صواريها، ومُدّرعة في هيجائها بأعلى سواريها... أفتقبلُ بعد هذا أن يكون الذي أنت عليه رهنًا لمن هم عليه فإذا هم في الدرك قد سقطوا، وإذا بك من تلقائك تُجرّ معهم؟ أم إن غاية الامتحان للمبدأ وأحسن اجتيازٍ لصاحب الفكر في مذهبه هو أن يرى من يراهم ممن كان يحسبهم أئمته وسادة ما هو عليه قد سقطوا وظل هو كما هو لا يُحركه من هيجان الموج ولا شعرة، ولا يُذهب من سنامه ولا ذُروة... وإنما يزيده على التثبيت تثبيتًا، وعلى الرسوخ رسوخًا...
* * * *
أوَ أُعطيك على هذا من التاريخ شاهدًا؟ وإن الناس لشدّ ما يألفون كل قديم فإذا ما هم يفِعـوا لا يذكرون حاضرهم كما يذكرون باكين ماضيهم. وإن الذي تتراءى له صفحة التاريخ وإن قلّب بينها خبط عشواء لتُنزله على منزل، وتُدخله في خيرِ مُدخل إلى العام الذي مات فيه من هُزّت لموته العجم، واضطربت في أمرها من ذلكُم العرب... حتى انتصفت الجزيرة إلى نصفين، وانقسم أهلها إلى فيلقين، فأولٌ وقد نزع البيعة من صدره ونفض صِبغة الإسلام من يده... وآخر لزمهُ لزوم العقاب لِمخلبها، واستكانوا له استكانة الراحة لأصابعها... فارتدت الجزيرة كلها إلا المدينة والطائف، وكادت عن نعيم ربها ترتدّ قريش لولا أن ثبتها الله بأسنان سُهيل الذي لولا رسول الله لما قام في الناس يومها، فإذا به وقد نهض نهوض الليث إلى مفزعه، والجندي إلى فيلقه، يخطب بإلهامٍ وكأنه إلهام ربٍّ لا وحي شياطين: «لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد»، فكأن العبارة نزلت فيهم منازل السيوف على الرقاب، واستكانت لها أرواحهم سكينة الطفلِ للثواب؛ فبقوا على الإسلام، وخرجوا في جيوشٍ لتُعيد للإسلام بيضته، وتنزع من صدورِ المُرجفين معصيته؛ فاستقام في صدورهم سيفُ خالد، واعتلى رقابهم صِمصامُ عِكرمة، فإذا الذي ادّعى النبوة قد رجع، وإذا الذي خال أن الرسالة له بعد رسول الله قد ضُرب ضرب النعاج في نحورها، والخراف في رقابها.
وأصرّ على ذاك أبو بكر على غيرِ رأيٍ من الصحابة الذين رأوا أن يُستكان للأمر ويُنتظر، فإذا به ينتفضُ انتفاضَ الغزال في دمائه، ويصهلُ صهيل الخيل في ميدانه: «والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتُهم عليه»؛ فعرف الصحابة أن الرجل قد نوى للحرب نيّتها، وأن ما في صدره لم يعُد عظماً ولحماً، بل لامة من لامات الحرب، وأن أصابعه قد استحالت إلى أسياف وأسهم... فضرب الجيوش في ركابها، وعمِد إلى القادة فمكّن لها... فخرج الخارج منهم وهو لا يرى إلا صورةً من رسول الله تتلقاهم، أو راية من راياته تتغشّاهم، حتى إذا ضرب ضربَ بـِ»وامحمداه»، وإذا غشى كان بسيف من الله يتغشى، ومع ذا... أتُرى ما صار بعدها؟ أعادت إلى خيبةٍ جيوش هذه الجموع أم إن الله منّاهم بالتمكين وبالظفر؟
عادوا - والله - ولكن لا إلى المدينة معقل سيدنا ومولانا... بل إلى قصر الفرس لتدك منهم الحصون، وتُذهب من بطش روما كل مظلوم؛ فغدت «المدائن» لها موئِلاً، وصارت إلى أمرها حواف دمشق مسجدًا، وعادت لها رغم الذي كانت فيه من ضيقٍ فوق الذي ترجو، وأعلى من الذي كانت لتسأل... ثم أتُرى لو أنهم استكانوا وقالوا لم يعُد على ما كُنا عليه أحد إلا بضعُ نفر من المدينة، وشيٌ من رجالات قريشٍ وثقيف، أتُراهم لو عمدوا إلى هذا البِدع من القول بالردة، وقالوا قد ارتدت الناس ألا فارتدوا، ولم يثبتوا على ما هم عليه، بالله أكانوا ملكوا فارساً؟ وأخذوا من الروم ما أخذوا؟ لا والله... ولكنّها «المحن»، تمُرّ بالمرء فإذا ما أصابته بيّنت من دقةٍ معدنه، وأجازت من حواجزها مذهبه، ثم هذا القرآن مُحكَمًا ومُحكِّما يقول
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم. مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ? أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
** **
- محمد عبدالجبار