د. عيد بن مسعود الجهني
لبنان بلاد الديمقراطية والحرية والثقافة والفكر في الشرق الأوسط، لم يبلغ هذه المكانة بين عشية وضحاها وإنما بدم أهله رجالاً ونساءً، استطاعوا (بقوة) طرد العثمانيين الذين سيطروا عليه ردحاً طويلاً من الزمن 1516 - 1918، وهي فترة طويلة في عمر الدول، كان لبنان خلالها بكل أطيافه حبيس الاحتلال العثماني.
وطول تلك الفترة انتزعت منه حريته واستقلاله وما أن تنفس الصعداء تزامناً مع خروج محتل غاصب حتى تسلم راية الاحتلال مستعمر آخر، فرنسا في نفس العام، وكأن قدر لبنان وأهله في ذلك الزمان قد طغى عليه المستعمرون واحداً بعد آخر.
لكن التاريخ السياسي يحدثنا بلغة فصحى ليقول: إنه لا يضيع حق وراءه مطالب، فالشعب اللبناني استمر في كفاحه ضد المستعمر الفرنسي لينتزع استقلاله بتاريخ الـ22 من شهر نوفمبر 1943، والحرب الكونية الثانية تهب نيرانها على دول العالم، وفرنسا أحد أقطابها التي احتلها النازي هتلر، وغادرها ديجول ليتحول إلى مكافح ضد احتلال بلاده.
انعتاق لبنان لم يكن دربة مملوءة بالورود إنما بدماء اللبنانيين، فرغم أن فرنسا المحتلة اعتقلت الرئيس بشارة الخوري ومعه رئيس الوزراء رياض الصلح، بل وحلت مجلس النواب وألقت دستوراً للبلاد، إلا أن الشعب اللبناني بكل أطيافه كان بالمرصاد في وجه المحتل فعمت المظاهرات البلاد ولم يتوقف زحفها حتى أعلن المستعمر عدوله عن تلك الإجراءات غير الدستورية التي ألغى بموجبها السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ولم تتوقف مظاهرات واحتجاجات اللبنانيين ضد الفرنسيين إلا بعد أن غادرت القوات الفرنسية عام 1945 ليسجل التاريخ الحديث الاستقلال الكامل للبنان عام 1946م.
وكأن نهاية الحرب المدمرة الثانية فتحت أبواب عالم جديد دخلته لبنان مثل غيرها من شعوب العالم، وهي دولة مستقلة، فخاضت غماره برؤى وطموح تتعدى هدف الاستقلال طامحة إلى أحلام واسعة فكرية وثقافية وحرية، وسياسية واقتصادية.
وبالفعل فقد استمرت عجلة التطوير في لبنان منذ ذلك التاريخ ولم يعكر صفوها سوى الحرب الأهلية سيئة السمعة التي اجتاحت البلاد وأهلها في منتصف سبعينيات القرن المنصرم لتتحول السنوات السمان إلى عجاف، حملت معها اغتيال أمن واستقرار ذلك البلد الجميل.
وكأنه قد حسد على تلك النعمة التي كان يتغنى بها اللبنانيون، كما حسد أهل ثروة النفط التي وهبها الله لهم، ولذا فإن اندلاع الحرب الأهلية بهمجيتها وشراستها جعلت الأعداء يقيمون الحفلات ويضربون الطبول، ويرقصون على دقات الدفوف.
التاريخ اللبناني يسجل أن البلاد عاشت حرباً أهلية لم تبق ولم تذر، أزهقت أرواح الأبرياء، ولم تنطفئ النار التي اشتعلت على أرضه بمدنه وقراه وجباله وسهوله ووديانه إلا عندما سكب عليها ماء اتفاق الطائف الشهير بتاريخ 30 سبتمبر 1989م الذي رعته القيادة السعودية في تلك الفترة من التاريخ - ليطوي لبنان واللبنانيون صفحات سوداء أعادته إلى الوراء عقوداً!
ولأن الدولة العبرية تتحين أي فرصة للانقضاض على لبنان بعد أن استغلت اقتتال اللبنانيين فانقضت على لبنان في تلك الحقبة من التاريخ، عندما رأت الفرصة سانحة، فزادت الخراب خراباً والدمار دماراً وعمقت الجرح النازف أصلاً.
ونيران الحرب الأهلية مشتعلة ولبنان واللبنانيون منشغلون بالحرب ولهيبها أعلن ميلاد حزب جديد على أرض الدولة اللبنانية وتحديداً في الجنوب منه إنه حزب الله الذي أصبح له مشروعه الواضح ليمثل اليوم عقدة رئيسة في توجيه دفة سياسة البلاد في جميع توجهاته ومع وجود هذا الحزب شهدت لبنان حرباً مدمرة شنتها إسرائيل عليه عام 1996، وسجل تاريخ إسرائيل العدواني العنصري مجزرة قانا الشهيرة.
وما إن انتهت تلك الحرب حتى ابتلي لبنان بفاجعة جديدة تمثلت في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ورفاقه فزادت الطين بلة، فنقلت البلاد والعباد إلى نقطة مظلمة غير مسبوقة، جعلت الكثيرين من أهل لبنان، إن لم يكن كلهم وكذلك محبوه، يتخوفون على مستقبل الأرض التي أحبوها والجبال والوهاد والوديان والسهول والمدن والقرى التي عشقوها.
وقد بقيت قضية الحريري تراوح مكانها منذ عام 2005 حتى شهر أغسطس 2020 عندما أعلنت المحكمة الدولية الخاصة بقضية الحريري التي تكونت بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة قرارها بإدانة أحد أعضاء حزب الله الرئيسين سليم عياش.
وقد كانت حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 أكثر تدميراً من حربيها السابقتين وخلفت وراءها قانا ثانية، وجاءت وسط الخلافات اللبنانية - اللبنانية، فاستغل العدو المتربص تلك التناقضات معلناً حربه تلك.
ومنذ ذلك التاريخ 2006 ولبنان يواجه صعابًا عدة اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية وإستراتيجية، فكلما شكلت وزارة أصبحت السلطة التنفيذية في ذلك البلد مشلولة لا حول ولا قوة لها، والسبب أن حزب الله أصبح دولة داخل دولة ينفذ أجندات إيرانية نقلت البلاد من الغنى إلى الفقر ومن النزاهة إلى فساد مالي عظيم، حزب الله سلاحه يجب أن يكون ضمن سلاح الدولة وإلا لن تكون هناك دولة إذا انفرد الحزب بسلاحه ليصبح معادلاً للدولة، فهذا كسر عظم لسيادة لبنان، ويعد في مفهوم القانون الدولي كأنه استعمار جديد لبلاد الأرز جاء من داخله.
وقد استمر الحال على هذا المنوال حتى حلت ببلاد الأرز طامة كبرى تفجير ضخم يعادل في قوته قنبلة نووية من حجم القنابل التي ألقاها الأمريكيون على هيروشيما وزميلاتها على أرض اليابان لتعلن استسلامها وتغرب شمس الحرب الكونية الثانية.
في بلد كلبنان كيف لسنوات عدة وتحت سقف أحد العنابر في مينائه الرئيس تختزن 2775 طن من المتفجرات دون علم الدولة وإذا كانت تعلم فالمصيبة أعظم، وهذا هو مفتاح التجاذب داخل الدولة الواحدة لتنتهك سيادتها التي انتزعتها من المحتل الفرنسي، ليأتي أناس لم يقدموا نقطة دم واحدة في محاربة المستعمر العثماني والفرنسي ليسيروا دولاب عمل الدولة لصالحهم.
هذه الكارثة العظمى التي أودت بحياة أكثر من مائتين من المواطنين، ناهيك عن المفقودين وأكثر من 6500 جريح وتهجير أكثر من 300 ألف من اللبنانيين ليصبحوا بدون مأوى، وليخلف الدمار دماراً شديداً تكلفته قدرت بأكثر من (15) مليار دولار.
وإذا صح نبأ اكتشاف الجيش اللبناني لنحو (4) أطنان و350 كيلو جراماً جديدة من نترات الأمونيوم قرب المدخل رقم (9) من المرفأ فإن ذلك ينذر بشر مستطير ويفتح الباب مشروعاً لطرح أسئلة قانونية وإدارية منها من أين منشأ تلك المتفجرات الخطرة ومن الناقل وصاحب الناقلة ومن المستلم والمخزن وتاريخ تلك الشحنات وكيف يتستر عليها جماعة أو حزب ..الخ؟
وكيف لدولة وضعها الاقتصادي على حافة الهاوية، عملة منهارة كسرت حاجز 8000 ليرة مقابل دولار واحد ودين عام كبير جعل الدولة تعلن عدم قدرتها على الوقوف على قدمين قويتين أمام الدائنين وصندوق النقد الدولي الذي تنتظر نخوته لدعمها.
هذا البلد العربي الشقيق مقدم على ما هو أخطر، بل إنه في ساحة الخطر، إذا لم يقف قادته على مختلف أطيافهم بكل أحزابهم وتركيباتهم الطائفية صفاً واحداً للإنقاذ، بعد التجارب الماضية المريرة القاسية، مع الحروب الأهلية والصراعات على السلطة والحروب الإسرائيلية ضد كيانهم واستقلالهم.
يجب أن يستفيد اللبنانيون من العبر والدروس ومن هذه وتلك، يجب عليهم قراءة المستقبل قراءة صحيحة، فالصراع (العبثي) لا ينتج سوى تصعيداً وتوسيعاً لحلقة الخلافات، ويرفع درجة التوترات بين الطوائف والأحزاب، ويخلق أجواء سوداء كسماء بيروت في يومها (الأسود) حين لطخ سماؤه الصافية دخان طامة انفجار مرفأ بيروت.
يجب أن يأخذ اللبنانيون العبر ويتبينوا عثرات الطريق، واستلهام الأيام الطيبات التي ساد فيها الوفاق وعم الوئام وريقات الشجرة المحروقة تنبت وتستعيد رونقها وثمارها تخرج وتستعيد نضارتها.
بهذا يستطيع لبنان وأهله وقادته وطوائفه أن يصنعوا تاريخاً جديداً للبنان تخرجه من عقدة إفلاس الدولة وضياع أموال المواطنين والقضاء على الفساد المستشري، في كل صنوفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ..الخ.
وإقامة العدل والمساواة، ومنع قافلة اللبنانيين النازحين عن وطنهم إلى الخارج باحثين عن فرص عمل وهم مرحب بهم في الدول الأخرى لكن إجبار هؤلاء الناجحين في بلادهم على مغادرتها مشروع خبيث وراءه ما وراءه لتفريغ البلاد من سكانها لمصلحة طائفة أو طوائف أخرى محددة في ظل توقف الداعمين العرب وغيرهم اقتصاد لبنان إذا لم تتغير تركيبة لبنان الدولة لتصبح لكل اللبنانيين وليس لحزب أو حزبين.
وهذا لن يكون إلا بإجراء انتخابات جديدة نزيهة ومحاربة الفساد بشكل شفاف بعيداً عن أنصاف الحلول ويجب أيضاً أن تقود لبنان تركيبته الأصلية السنية والمسيحية والشيعية وغيرها التي كانت مطبقة منذ استقلاله عام 1946 وحتى هبوب عاصفة الحرب الأهلية.
والله ولي التوفيق.
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة