د.فوزية أبو خالد
لا بد من التنبيه إلى أنني كتبتُ هذا المقال على طريقة التقطيع السينمائي للمَشاهد، ولم يكن ذلك رغبة مني في نقل تجربتي السينمائية إلى أسلوب الكتابة، ولكن لأن كمبيوتري المحمول بعد عشر سنوات من تبادل الصبر على بعضنا قرر العصيان، وأُصيب بسكتة قلبية تاركًا لي شحنة عالية من الشجن، والكثير من الحيرة في البحث عن بدائل. فجزء من المقال كُتب على الجوال، وجزء كُتب على أيباد مستعار، والكتابة النهائية على «ماكبوك» بالكاد أستدلُّ على موقع حروفه.
لم أكن أتوقع ولا في الحلم عندما حضرت بالدمام مهرجان أفلام سعودية الثالث عام 2017 أنني في مهرجان 2002 سأشارك الشباب بفيلم. كانت لي تجربة في التدريس السيسيولوجي السينمائي لمقررات عن صورة المرأة العربية والمسلمة في الإعلام والأفلام، وكذلك تجربة في كتابة سيناريوهات لأفلام أجنبية عن السعودية، ولكن لم تكن قد وصلت مواصيلها نقطة إخراج فيلم، وتحمُّل مسؤوليته الفنية والتقنية من ألفها ليائها. مما تتطلب عودتي لمقاعد الدراسة، ولتنقيب عيوني بالقراءة، والمشاهدة.
كان دافعي لخوض تجربة عمل فيلم عن لحظة مختطفة من حياة سلمى الشاعرة والناقدة وعريشة الياسمين بين الحضارات.. رومانسيًّا بحتًا؛ ففضلاً عن أن اسم سلمى بحد ذاته كان يرتبط بذاكرة الطفولة، وأجده جذابًا إيقاعًا ومعنى منذ وقت مبكر، يوم كان لأمي في طفولتي صديقة من الزبير بهذا الاسم السلسبيلي، يجتمع في وجهها جمال أرض العراق ونجد، وعذوبة الفرات ودجلة، فإن سلمى الجيوسي بالذات كانت بالنسبة لي حواء وبلقيس وسارة ومريم وخديجة وعائشة والزهراء وليلى ونور، وكل النساء السامقات اللواتي كنتُ أنحدر من سلالاتهن العريقة، وأقرأ سِيَرهن منذ نعومة أظافري في أحلام أمي وكفاحها اليومي الجبار الصموت.
كنت مثلي مثل ثلة عريضة من بنات وأبناء الجيل المولودين بين شفا الخمسينيات والستينيات المشبعة بأوكسجين تطلع الوطن العربي لأحلام التحرر والنهضة، قد فتحت عيني على قيم وطنية وإنسانية كبرى من الاستقلال والوحدة والمقاومة إلى الكرامة والعدل والمساواة؛ وهو ما جعلنا في سن مبكرة نعشق كل رموز تلك القيم من الأرض إلى الأشخاص. وقد كانت القضية الفلسطينية ورموزها النضالية وقتها من الشهداء إلى الكتّاب والشعراء والمفكرين والباحثين والمعلمين من عموم الوطن العربي (مصر والعراق وبلاد الشام والجزيرة العربية واليمن) تشكل نبض القلب، ورفيف الأجنحة، ورغيف الخبز لذلك العشق العذري.
كانت د. سلمى خضرا الجيوسي أحد تلك الرموز التي عشقتها عن بُعد شعرًا وبحثًا وأنا لا أزال على مقاعد المدرسة. فما بالك أن ألتقي تلك القامة بعد أن تخرجت من الجامعة بأمريكا بقليل؛ لأجد نفسي أمام الشاعرة والباحثة وصاحبة دار نشر لتقديم الأدب العربي الكلاسيكي والحديث إلى مكتبة العالم الغربي وجهًا لوجه، وأين يكون اللقاء الأول؟! يكون لمفاجأته في رحاب حرم جامعة الملك سعود بالرياض موطني.. وأنا معيدة صغيرة، وهي أستاذة للأدب العربي على مد البصر.
وقد كانت د. سلمى الجيوسي لدهشتي مطّلعة على حذافير تجربتي الريادية في شعر قصيدة النثر، وشقاءاتي بها، كما كانت حفيّة بتجربتي وبتجربة جيل شباب الثمانينيات الحديثة، كله وبه ومنه كان كتابها الموسوعي المترجم لإنتاج جيلنا شعرًا ونثرًا «أدب الجزيرة العربية الحديث».
أما قبل ذلك اللقاء فقد جمعني بها وبعدد من عيون شاعرات الوطن العربي الفنان التشكيلي كمال بلاطة في كتابه نماذج من شعر المرأة العربية الذي صدر بالإنجليزية بعنوان «نساء من الهلال الخصيب» عام 1979. فلما التقيتها بالجامعة توطدت العلاقة بيننا، بل إنها صارت صديقة لأمي ولي، وصديقة صديقاتي. وكانت د. سلمى - ولا تزال - من أولئك الناس الذين كلما اقتربت منهم أكثر تكشفت لك أكثر كنوز من مكارم الأخلاق وأبعاد الشخصية وعمق الفكر مما يصعب أن يدرك كله إلا من خلال معرفة متعددة وطويلة. لقد التقيتها في عدد كبير من الندوات والمؤتمرات والجامعات عبر العالم في بغداد وبيروت وجدة والرياض ودبي ولندن ونيويورك ودي سي وعمان، وكنت في كل مرة أرى فيها مثالاً للمرأة العربية العروبية العصامية القوية المرهفة، كما أرى فيها الصديقة والأم الروحية. ولا أنسى أنها جاءت من أمريكا بوسطن خصيصًا للوقوف معي في محنة صحية، كنت أمرّ بها، وأتلقى علاجها في لندن. وكم أتذكر ساعات البكاء والضحك التي كانت تمرّ بين الأستاذة والتلميذة ونحن نتغلب على الألم الشخصي بالألم والأمل العربي.
ويحضر في البال أصدقاؤنا المشتركون عبر وطني والعالم العربي وأمريكا. فالأساتذة السعوديون والأدباء ممن عملوا معها على مشروع الكتاب الموسوعي (أدب الجزيرة العربية) يكنّون لها تقديرًا عظيمًا، ومنهم د. منصور الحازمي، د. عزة خطاب، د. عبدالله المعيقل ود. معجب الزهراني. إضافة للشيخ عبدالمقصود خوجة، ود. أبو بكر باقادر، ود. سعاد المانع. ومن مصر جمعتنا صداقات مع د. شكري عياد، د. فاطمة موسى والشاعرة ملك عبدالعزيز - رحمهم الله -. ومن بلاد الشام حسناء مكداش، وأدونيس، وأمل جراح، وهدى بركات.. وشعراء فلسطين: فدوى طوقان ومحمود درويش، ومن أمريكا مارجريت بدران وجودث تنكر وشريف الموسى.
وكان د. إبراهيم التركي قد خصص عددًا كاملاً من مجلة الجزيرة الثقافية مطلع الألفية احتفاء بتجربتها الفذة في عالم الترجمة من اللغة العربية للغة الإنجليزية. فقد قدمت موسوعة إبداعية عن المدن الإسلامية عبر القارات، إضافة لقيامها بترجمات واسعة للعمل الروائي والقصصي السعودي، منها رواية سقيفة الصفا لحمزة بوقري، ومجموعة قصص لعبدالعزيز المشري - رحمهما الله -.
وإبان مشاركتي في لجنة تحكيم جائزة البوكر للرواية العربية، وقد كان اجتماعها الثاني بعمّان الأردن 2019، لم يكن لي أن أغادر الأردن دون الاتصال بها. وقد علمت أنها استقرت ببيتها هناك مع بنتَيها الجميلتَين المثقفتَين البارتَين (لينا ومي)، وحفيدتَيْها (الغادة جنان وسلمى الصغرى). فتحت الخط، وهاتفتها ليهمي صوتها في أعماقي هتانًا وأشجانًا.
تحاملت السيدة رمز الأمومة والمعرفة والوفاء على نفسها، وجاءت لزيارتي بالفندق، وهي بالكاد تسند عودها المجهد من جهاد السنين الطوال. أصرت على استقبالي ببيتها، واحتفت بي كعادة كرمها الطائي المتجلي من شروق ابتسامتها لضيافتها الضافية لتلويحها عند باب شقتها بعمّان لآخر لحظة. ورغم أنها كانت تعاني كحة وضيقًا في التنفس فقد وافقت بحماس وصبر بعد محاولات إقناع على أن نبدأ تصوير الفيلم لساعات طويلة متواصلة؛ لتنهيه قبل موعد سفري القريب؛ لتصلني رسالة «واتساب» من ابنتها لينا بمجرد هبوطي بمطار نيويورك أن د. سلمى دخلت المستشفى بعد مغادرتي فورًا؛ لأنه اتضح معاناتها من «النمونيا»..
ولكم أن تتخيلوا مدى حيوية هذه السيدة وهي في التسعين من العمر، ومدى إخلاصها لرسالتها كشاعرة وباحثة ومؤسسة لعلاقة حضارية بين الشرق والغرب، تخالف علاقة التتبيع والهيمنة من خلال ترجمة الأدب، بأنها لا تعبأ بتعبها وألمها الممض، وتصر على السماح لي بأن أمضي في تصوير الفيلم حتى وإن اقتضاها ذلك التنويم بالمستشفى بعد إتمام المهمة الشعرية مباشرة.
كانت مترددة بعض الشيء - إن لم تكن متحفظة وخجلى خجل العلماء - عندما عرضتُ عليها فكرة عمل فيلم عن حياتها. وبعد أن أقنعتها بأهمية هذا الفيلم من أجل الأجيال الجديدة - إن لم يكن من أجلها - قالت لي كلمة بصيغة سؤال أبكتني في داخلي: «ألا تظنين أن الوقت تأخَّر على عمل فيلم عن حياتي؟».
أما السؤال الذي وجَّهته إلى نفسي، وأرَّقني بعد أن حملت مادة الفيلم الخام داخل وعاء إلكتروني معي إلى نيويورك، فهو سؤال: أي فيلم يتسع لحياة سلمى خضرا الجيوسي بمدها وجزرها، وبصخبها وهدوئها، وبشراستها وشفافيتها، وبنضالها اليومي البسيط وبطولاتها المطلقة أسريًّا وعربيًّا وحضاريًّا؟
ومن ذلك السؤال المؤرق بدأت المحطة الثانية من محطات العمل على الفيلم..
كنتُ قد درست بعض المقررات عن صناعة الأفلام المستقلة، منها كيفية عمل فيلم لا محدود بتكلفة محدودة.
وقد ساعدني ذلك كثيرًا، وشعرت طوال فترة العمل على الفيلم التي استغرقت 6 أشهر، أنني وسلمى نكتب قصيدة مشتركة من خبز وملح وحلم، ونتواطأ على ارتكاب مخاطرة طائشة، اسمها «فيلم وثائقي شعري».
فشكرًا لمن شاركوني تجربة العمل الخلاق لفيلم شمس سلمى: مدير التصوير يوسف فراج، وعد الموسى مدير المونتاج، الشاعرة ميسون بكر التي أعارتنا حنجرتها لصوت الراوية للفيلم، الإعلامي حسين إبراهيم وفنان الخط العربي فالح الشهراني، والشكر كل الشكر للابن الأستاذ محمد الحساوي على الوقوف معي بمشورته السينمائية عبر الأثير في المراحل المتعددة للعمل على الفيلم وعلى تنفيذه لبوستر فيلم شمس سلمى.
والامتنان الجزيل لصانع الأحلام الشاعر أحمد الملا؛ فعمله بخيال الإبداع، وروح الفريق، أوجد على أرض الوطن من الصفر.. مهرجان أفلام سعودية.. والحمد لله.