د. حسن بن فهد الهويمل
سُنة التداول والتدافع التي اختارها الله لهذا الكون، لحكمة لا نعلمها، تُثَبِّت فؤادَ المؤمن. ولو لم يكن المؤمن على يقين بأن الله يدبِّر هذا الكون، وفق نظام دقيق حكيم، لا يعلم سره إلا هو، لما احتمل هذه المصائب الجسام التي تعصف بالأمن، والرخاء، والاستقرار.
وضعُ أمتنا لا يمكن احتماله إلا بالإيمان. ولو ضاع الإيمان لضاع معه الأمان، والاحتمال.
- أهو ابتلاء، أم عقاب، أم سُنة نجهل حكمتها؟
الرسل امتُحنوا، ثم صبروا، ثم زاد الابتلاء عن الصبر، فكان التساؤل:- {مَتَى نَصْرُ اللّهِ}. وكان الدعاء :- {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين}. ويأتي لطف الله:- {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب}. و{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين}.
الحياة جزر، ومد، وكل مولود يأتي على ما وُلد فيه، وعليه. والعاقل مَن ينحني للريح حتى تهدأ العاصفة، ثم يعدل قامته، ويعيد الكَرَّة للتغلب على وضعه. فالأجدى للمحارب: التحيز لفئة تنصره، أو التحرف لوضع يقيل عثرته.
عالمنا يعيش درك الشقاء، وواجبه الالتفاف حول الذات، والإبقاء على الرسيس، حتى يأذن الله بالنصر؛ فبشائر النصر تلوح عندما تستحكم الأمور :-
ضَاقَتْ ولمَّا اسْتَحكمت حلقاتُها
فُرِجَتْ، وكنتُ أظُنَّها لا تُفْرجُ
وقَدْ يَجْمَع الله الشَّتِيتَين بَعْدما
يظنان كل الظَّن ألا تلاقِيا
لا يجوز للمؤمن في ظل هذه الظروف العصيبة أن يقنط من رحمة الله:- {فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِين}. وقد ذم الله القانطين:- {إِذَا هُمْ يَقْنَطُون}.
وحتى في المعاصي لا يجوز القنوط:- {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}.
وفي النعم حين تُنْزع، أو تُمْنع:- {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا}.
وكيف يتسرب اليأس والقنوط إلى قلب المؤمن، والله حين خلق الرحمة خلقها مائة جزء، فأمسك تسعًا وتسعين، وأرسل واحدة.
ولأن الإسلام يقوم على الوسطية فقد راوح بين القنوط، والأمن، واليأس، والعُجْب.
ومن الكبائر: اليأس، والقنوط، والأمن من مكر الله.
لقد شَهِدْتُ مجالس علماء، ومفكرين، وساسة، يتداولون الرأي في أوضاع أمتهم.
البعض منهم يستبعد استعادة العافية، ويميل إلى التسليم. وهذا قنوط.
وآخرون لما تزل العنتريات الفارغة دأبهم. وهذا إلقاء بالنفوس إلى التَّهْلكة.
وقليل منهم من يقرأ الواقع بعيون الواقع، ويتعامل مع المتسلط وفق الإمكانيات المتاحة:- {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
الوضع يحتاج إلى لغة مقننة، هادئة، متبصرة. خطاب الإحباط، لا يَقلُّ ضررًا عن خطاب الاهتياج الأعزل.
الرَّأْيُ قَبْل شجاعةِ الشُّجعانِ
هُوَ أولٌ، وهي المكان الثاني
تاريخ الرجال هو التاريخ الحضاري؛ فهم بناة الحضارة، باللسان، والسنان، والرأي السديد، وهم القدوة في اتخاذ المواقف في حالتَي الإقبال والإدبار.
- فأين نحن من شجاعة (علي) و(خالد)؟
- وأين نحن من دهاء (معاوية) و(ابن العاص)؟
- وأين نحن من حلم (الأحنف بن قيس) وأناته؟
رجالات بنوا حضارة، وصدروا قيماً، وقدموا أسوة. ما أحوجنا إلى مثلهم في هذه الظروف العصيبة لإقالة عثرة الأمة، ولَمّ شملها، ورسم خارطة طريق، تحول دون خوارط الأعداء التي أهلكت الحرث، والنسل.
ولخطورة اليأس والقنوط أجمع العلماء على تحريمهما، وقد يُخرِجان من الملة في بعض الأحوال، حتى لقد رآهما بعض العلماء أشد من الكبائر.
وضْع الأمة - أكاد أجزم - أنه وضع لم يمرّ مثله على الأمة العربية والإسلامية في التاريخ. عرفنا موجات من الفتن، والكوارث، والأوبئة، كحملات التتار، والصليبيين، والقرامطة، والطواعين، ومن أشهرها (طاعون عمواس).. لكنها مرت والأمة قوية، ولديها مقومات العودة إلى ما هي عليه.
أما اليوم فهناك طغيان، وظلم، وتسلط، ودول جائرة تحكم العالم بقوة الردع، وهي قوة لا يملكها إلا الأقوياء الظلمة.
كما أن هناك تمزيقاً قطرياً، وطائفياً، وعرقياً.. ونسيجاً ثقافياً، ودينياً، واقتصادياً.. وتصنيماً حدودياً يحول دون العودة إلى الوحدة.
بل هناك مجالس، وهيئات، وعهود، ومواثيق تحول دون المواجهة العسكرية؛ لأنها أنشئت لتخدم المستبد. والأسوأ من ذلك كله خارطة طريق مزّقت الممزق، وعمّقت المآسي.
حتى لقد أصبحت حالنا كحال من قال الله فيهم:- {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}.
والأشد سوءاً التمزيق الفكري؛ فالأمة التي مُزقت أرضها، مُزق فكرها. والتعددية الفكرية، والدينية، والطائفية، والقومية، وتحكيم الأقليات، ودعمها كل ذلك يسهم في تصعيد الصراع، وجعل البأس بين الطرائد شديدًا.
والتلبسُ باليأس تصعيدٌ للخوف، وتهوينٌ للعزمات.
وأسبابه: الجهل برحمة الله، وتمكين النفس الأمّارة، والشيطان؛ لشحن النفوس بالخوف عند النفوس اللوَّامة، والنظر إلى الأسباب دون التعلق بالمسبب، وضعف النفوس، وجزعها، واستفحال النتائج، والحياة اللحظية.
الأمة العربية تصرفاتها آنية، ليس لديها (استراتيجية) بعيدة المدى، أو قريبته.
وتغلب الشهوات، ودنو الهمم، والتسليم للواقع، وتصعيد (عقدة الأبوية).
الأمة بحاجة إلى تقوية إيمانها بالله، وحسن ظنها به، والإيمان بالقضاء والقدر.
فالمصائب ليست خبط عشواء، كما يقول الشاعر :- (رَأَيْتُ المَنَايا خَبْطَ عَشْوَاءٍ).
كل شيء في كتاب:- {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}. و{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}.
اللهم ارفع الغمة عن الأمة، وأعد لها عزها، وتمكينها، وانصرها على عدوك، وعدوها.