سام الغُباري
في الـ26 ربيعًا، وبربطة عنق زهرية، ورداء أسود لامع مثل فنان مصري مغمور، وقفت على عتبة بوابة مجلس الوزراء مقبلًا من زقاق صغير محاذ لمبنى البرلمان، كان حذائي إيطاليًا استعرته من صديق ثري يسكن في حيّ الأصبحي، وبه شعرت بطراوة المشي، فمشيت وفي إبطي إضبارة صفراء فاقعة تحوي أوراق اعتمادي مديرًا عامًا لمؤسسة 14 أكتوبر بمحافظتيّ ذمار والبيضاء.
بداخل غرفة صغيرة استأذنت لدخول المجلس الموقر، وانتظرت على القارعة قرابة ساعتين حفرت الشمس أخاديد فوق بنفسجية على رأسي، وتشبّعت بدلتي السوداء بقيظ من لهب، وتصفد العرق من مسامي، وبدوت كفتى تاه في صحراء النقب، وقلت محفزًا نفسي: هذا ما يقال له النضوج على نار هادئة! حتى سمعت صوتًا ورأيت ذراعًا تلوح في الهواء، فتبعتها، ودخلت الفناء الموقر، وألفيت عضو مجلس النواب السابق «محمد الغربي عمران» لدى باب خشبي مُذهّب، وفي الرواق الداخلي واجهني شعار ضخم للطير الجمهوري ذي الأوداج المنتفخة، وقبض «الغربي» على معصمي، وجرني إلى مكتب الرجل الأول في هذا المبنى، وكان قد خرج لتوه مع أدباء اليمن من لقاء معه، وسَمَح لي وقت ما بين اللقاءات بالدخول إلى المكتب الأكثر أناقة ورهبة، كان «الغربي عمران» بلهجته الطيبة قد استأذن المسؤول لقضاء أمري بسرعة لن تستغرق دقيقة واحدة، وهناك رأيت عبدالقادر باجمال وجهًا لوجه، جالسًا في سدة المكان مثل راهب أسطوري، بريق قسماته متوهجة ببياض مشرئب بحُمرة، وجفلت برهة، وكان «الغربي» يجرني وراءه كرجل مقبوض عليه، وعند حافة مكتب لامع قدّمني بطريقة مسرحية، وجُعِل «باجمال» ينقل بصره بيننا وقد تشكلت ابتسامة مرهقة على شفتيه، ابتسامة صعبة، بطيئة، وناولته أوراقي قبل أن يفيق من دهشة الإلقاء، فقام، نهض، وقف، وفي أصابعه إضبارتي مفتوحة مثل فم مذعور، واقترب نحو الباب، أمسك مقبضه الفضي، وتخيلت للحظة، أنه سيرمي أوراقي إلى الخارج ويطردني، وخرج صوته كما كنت أسمعه من التلفاز بلكنة حضرمية، ينادي موظفًا، وعاد ينظر إليّ، يخترقني، ومر من أمامي ورائحة عطر شممت مثلها يوم صافحت صدفة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر -رحمه الله- في ساحة البرلمان متسللًا بين مهنئين صافحوه بمناسبة تجديد انتخابه رئيسًا لمجلسهم.
كان العطر طاغيًا، سائرًا باتجاه النافذة، لكن «باجمال» توقف، أمسك معصمي الأيمن بقوة، غرس أصابع يده اليمنى، وعيناه مشعتان مثل نجمتين صغيرتين، وكسل واضح على شفته السفلى يذهب بها نحو اليسار، وسألني عن اسمي، فأجبته، فرفع حاجبيه وسأل: أنت من ذمار؟ فأومأت برأسي، ولم ترق له إيماءتي، كان يريدني أن أتحدث ليرى إن كنت جديرًا بموقعي، وامتدت يد «الغربي عمران» إلى ظهري كمن يمسح عليها مربتًا، والتقطت أنفاسي، وندت مني آهة خفيضة، وهز معصمي، كمن يقول: ما بالك تتوجع؟ فتبسّمت مردفًا بعد الإيماءة: نعم من ذمار التي تدين لكم بعشرات المشاريع الضخمة، فلأول مرة استطيع أنا القادم من الريف إلى المدينة أن أعود بدراجة هوائية إلى قريتي بعد أن كان بلوغها يستلزم سيارة دفع رباعي لاختراق التباب الصعبة. وفاجأني بسؤال مدمر: ما شأنك بالمشاريع وقد جئتني لتنال قرارًا في الإعلام وليس الطرق والإنشاءات!
وشلّت ذراعي، وتيبّس لساني، صار مثل قطعة فولاذ باردة سقطت في فراغ الفك بلا حراك، ولعنت غبائي، وفضولي، شعرت أني متملِّق أحمق تعرض لصفعة ثلاثية الأبعاد، وأنقذني «الغربي عمران» بضغطة رقيقة على كتفي، وقلت بلا وعي: الطرقات تفتح مسارات التعليم من الريف إلى المدينة، وتسهل أمرها، هل تعلمون أننا أول صحيفة رسمية توزع نسخًا يومية في الصباح الباكر لعدد من مراكز القرى في الحدا وعنس ومعبر ورصابة. ثم صمتّ، ابتلعت كتلة مائعة من الريق، واستطردت: فيما مضى لم تدخل صحيفة 14 أكتوبر إلى ذمار، منذ أول يوم للوحدة حتى اللحظة، وهذا التوسع في الفروع عزَّزه توزيع مطرد في القرى، فلأول مرة أيضًا منذ فجر الجمهورية حتى اللحظة ينهض الفلاح في صباحه ليجد صحيفة رسمية يومية أمامه.
وهز رأسه الضخم وبدا كجلمود صخر يكاد يدمغني به حتى يشج جبهتي، وسأل بصوت جاء من الدرك الأسفل بطيئًا حتى وصل شفتيه: وهل يشترونها؟ وطافت سخرية كالسراب على محياه، ورأيتها، وقرَّرت المواجهة مجيبًا: بكل تأكيد، هي بالنسبة لهم فاكهة يومية، نبيع يوميًا قرابة مائة نسخة في كل مديرية، وهو رقم لا نبيع نصفه في المدينة التي اعتاد أهلها على شراء صحيفة الثورة من صنعاء.
واستمر التحدي، وطفقت أتحدث بإسهاب عن كمية الأخبار المشجعة التي ننشرها يوميًا من القرى، عن حوادث الأمن، والمصالحات القبلية، والمشاكل الاجتماعية، وأخبار مشاريع الكهرباء والطرق، وحوارات مع المشايخ والناس، واستطلاعات عن الحصون الأثرية بمناطق عدة، وأنهيت عباراتي بطريقة مسرحية: لأول مرة يرى المزارع أو العاقل المهمل في قرية من قرى «الحدا» صورته في صحيفة، ذلك يعزِّز دور الإعلام الرسمي ويشجع على تواصل مثمر.
وكِدت أصفق لنفسي، لولا أني انتبهت إلى أن أصابع «باجمال» لا تزال مغروسة في ذراعي، بالقوة نفسها والإصرار ذاته. وبعد أن حصلت على موافقته وتشجيعه ومبلغ مالي أكل مدير الشؤون المالية نصفه في لحظة ابتزاز مريعة، وقفت فرحًا وسط ميدان التحرير وأمامي تبدت مسارات طرق مختلفة، هناك نزعت كمّ قميصي، وتحسست مواضع أصابعه، وقد بدت علاماتها واضحة، كمن يقول لي: لا تنس من وضعك على ناصية الحلم.. فقاتِل.
رحم الله الأستاذ عبدالقادر باجمال.
وإلى لقاء يتجدَّد..
** **
- كاتب وصحافي من اليمن