إن للعقل مكانة كبيرة في الإسلام؛ فهو مناط التكليف، وقد جعله الله من الضروريات الخمس التي يجب المحافظة عليها، ويحرم إلحاق الضرر بها. واقتضت حكمة الله تعالى أن يفاضل الله بين عباده في نعمه، ومنها نعمة العقل والفهم والعلم، قال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (الأنعام: 165). وهذا التفاوت يؤدي - بلا شك - إلى ظهور فئة الموهوبين في المجتمعات، أو ما يسميها البعض تجاوزًا الفئة المبدعة، وهي الفئة التي تتميز بخصائص وقدرات عدة، تجعلها فئة منتجة ومخترعة. وقد اعتمدت نظرية التحدي والاستجابة في تاريخ التربية عند توينبي على هذه الفئة المبدعة. فاستجابة هذه الفئة المبدعة للتحدي، واستثارة الطاقات الخلاقة في المجتمع، تؤديان إلى نشأة الحضارة. أما انهيار الحضارة فيقع بسبب قصور الطاقات الإبداعية لدى أقلية المجتمع التي تتولى قيادة الأغلبية العاجزة عن الإبداع (متولي، 1997م، 22).
لذلك اهتمت المجتمعات الحديثة بتربية هذه الفئة الموهوبة المنتجة، واهتم الباحثون بوضع المقاييس لاكتشاف الموهوبين، ووُضعت وصُممت البرامج لرعايتهم، وتعددت وتنوعت هذه البرامج نظرًا لأهمية هذه المهمة.
فعملية تكوين الإنسان وبنائه من أصعب المهام التربوية لما فيها من تداخل وتعقيد. أما إذا أراد المربي أن يبدع في بنائه، ويربي الطفل الموهوب، فسوف تصبح المهمة أصعب. وهذه المهمة من أفضل الأعمال؛ لأنها تسهم في تكوين لبنة طيبة في المجتمع (رياض، 2007م، 3).
إن تكوين ورعاية الشخصية الموهوبة المنتجة مطلب ضروري في عصر التقدم والتطور التقني والعلمي في جميع المجالات؛ فيجب الاهتمام بتنمية المهارات والعادات والاتجاهات للشخصية المنتجة؛ فهي التي تعين على تعمير الكون والحياة (علي، 2007م، 222).
والعناية بالموهوبين ورعايتهم أصبحت أحد المعايير المهمة التي يتم فيها تقدير درجات تقدُّم الأمم. فعقل الموهوب أغلى ألف مرة من بئر بترول أو رأس نووي؛ لأن هذا الرأس عالم واسع فسيح، نستطيع الانطلاق منه إلى عوالم كثيرة، إلا أنه يتطلب عملاً وإدارة وتدريبًا. وإذا تم ذلك فإن العالم أجمع سيستمتع باختراعاته وإبداعاته (قطامي، اللوزي، 2008م، 8).
ومن البرامج والأنشطة التي تساعد على تدريب الطلبة الموهوبين، وتنمية مهاراتهم، الأنشطة الإثرائية التي تمثل في التربية الحديثة ركنًا أساسيًّا من أركان العملية التربوية، لا يمكن الاستغناء عنها؛ فهذه الأنشطة هي التي تكسب الطلاب الموهوبين المعارف والميول والقيم والمهارات. ولقد أكدت التربية المتقدمة أن المنهج السليم هو الذي يعين المتعلم على أن ينمو نموًّا سويًّا. ويتحقق ذلك نتيجة للخبرة التي يكتسبها الطالب عن طريق مواقف النشاطات الإثرائية (حبيب، 2011م، 243).
ويقصد بالأنشطة الإثرائية: تعديل في المقرر المعتاد لجعله مناسبًا لقدرات الطلاب، ومراعاة الفروق الفردية فيما بينهم، وذلك بتضمينه خبرات تعليمية غير موجودة في المقرر المعتاد بهدف زيادة خبرات التعلم واتساعها وعمق التفكير.
فالأنشطة الإثرائية تكون مكملة وامتدادًا للمنهج الرئيسي العام، وتركز على تنمية مهارات التفكير العليا عمومًا، والتفكير الإبداعي خصوصًا, والتعليم الفعال. كما أنها تتضمن نشاطات حرة استقلالية، تعتمد على الطلبة الموهوبين، ومستوياتهم العقلية. ومن المهم أن تكون شاملة ومرنة ومتداخلة مع معارف أخرى؛ لأن الهدف من الأنشطة الإثرائية تنمية المهارات لدى التلاميذ، وترسيخ المعلومات والأفكار في أذهانهم؛ وهو ما يسهم في نمو المتعلم عقليًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا.
وهناك أنواع عدة من الأنشطة الإثرائية، منها:
أنشطة استكشافية عامة: وهي أنشطة تضم الكثير من المجالات والموضوعات، والهوايات، وسِير العلماء. ومن أمثلة هذه الأنشطة أنشطة الرحلات الميدانية للمعارض والمتاحف والمراكز العلمية والبحثية، وندوات ومحاضرات يُستضاف فيها العلماء والخبراء في موضوعات متعددة للنقاش. وهناك أنشطة تدريبية جماعية: وهي تستهدف التدريب على مهارات عمليات العلم التي يمكن استخدامها في البحث العلمي لحل المشكلات، والتدريب على التفكير الابتكاري، والتفكير الناقد. أما الأنشطة مفتوحة النهاية فهي أنشطة تشجيعية، لا تتبع نظامًا خطوة - خطوة للتوصل إلى الحل أو النتائج؛ فهي توفر مواقف للتحدي وإثارة التفكير الابتكاري (غانم، 2007م، 322).
ويمكن دمج الخبرات والأنشطة الإثرائية مع موضوعات المنهاج النظامي، ولكنها يجب أن تتجاوز نطاق المنهاج الرسمي.
وتسمح الأنشطة الاكتشافية للطلاب بالتفاعل مع شخص محدد، أو مفهوم، أو شيء من المعرفة، وتحفيز الاهتمام، وإتاحة الفرص للاكتشاف. ويجب تعلم عمليات التفكير المختلفة، واستراتيجيات إدارة المعلومات؛ ليستطيع الطلاب القيام باستقصاءات موجهة ذاتيًّا، وتطوير النتاجات والأفكار (ميكر، 1432هـ، 256).
ويتم الإثراء بصور عدة، منها: مراكز التعلم وقاعات المصادر التعليمية، والمقررات الدراسية الإضافية، والمشاريع والدراسات الفردية والجماعية، وبرامج التلمذة على أيدي متخصصين، وبرامج التربية القيادية، ومهارات الاتصال والحاسوب، والمسابقات الأكاديمية الوطنية أو الدولية (أولمبياد)، وبرامج حل المشكلات، والمستقبليات ومهارات التفكير (جروان، 2004م، 188).
ويمكن تطبيق الأنشطة الإثرائية بعد انتهاء الحصص الدراسية، أو في أيام عطلة نهاية الأسبوع، أو في غرف المصادر التعليمية، أو إضافتها إلى الأنشطة. ويجب أن يتضمن العنصر الرئيس في الأنشطة الإثرائية خطة نظامية لتوفير تعلم موسع للطلاب الموهوبين، كما يجب أن توفر هذه الأنشطة برامج، مثل حل المشكلات (نيكولاس وديفيز، 1432هـ، 194).
ويتضح مما سبق أهمية رعاية فئة الموهوبين؛ لأنهم عماد الأمة الذين يناط بهم تقدُّم المجتمعات ورقيها. ومن أهم أساليب رعاية الموهوبين توفير الأنشطة الإثرائية لهم، التي أصبح لها دور أساسي في البرامج الحديثة لرعاية الموهوبين. ويجب أن تكون هذه الأنشطة متنوعة، وتخدم مهارات متعددة، عقلية، ووجدانية، ونفس حركية؛ وهو ما يساعد على تنمية قدرات الموهوبين في جميع المجالات، واستثمارها في تحقيق التنمية في المجتمعات.
** **
- باحثة دكتوراه في جامعة أم القرى