بدأ التدخل العسكري التركي في ليبيا بدون إعلان رسمي منذ عام 2014م عندما كانت مدينة طرابلس وما حولها تحت سيطرة حكومة تابعة للمؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته، وكانت تسمى (حكومة الإنقاذ الوطني)، وتقودها جماعة (الإخوان المسلمين)، وكانت تركيا ترسل الأسلحة المختلفة والذخائر والعتاد الحربي إلى الميليشيات التي توصف زورًا بأنها (إسلامية). واستمر هذا التدخل بعد إبرام اتفاق الصخيرات في 17/ ديسمبر 2015، الذي ترتب عليه تكوين حكومة أطلق عليها اسم (حكومة الوفاق الوطني)، ويترأسها فايز السراج. ولأن معظم عناصر هذه الحكومة تنتمي إلى تيار سياسي واحد، هو تيار ما يسمى بـ(الإسلام السياسي)، فإنها لم تنل ثقة مجلس النواب؛ وبالتالي لم تحظَ بالشرعية الدستورية وفقًا لما تقضي به مواد اتفاق الصخيرات. وبالرغم من ذلك نالت هذه الحكومة اعترافًا من المجتمع الدولي بناء على قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2259) وتاريخ 23/ ديسمبر 2015، المؤيد لاتفاق الصخيرات. وكان المجتمع الدولي يأمل أن تحقق حكومة السراج الاستقرار، وتنهي حالة الانقسام والفوضى في ليبيا، لكن ذلك لم يتحقق؛ لأن هذه الحكومة وقعت أسيرة للميلشيات المسلحة، ولا تستطيع أن تخالف لها أمرًا.
وظلت تركيا بقيادة رئيسها أردوغان تدعم حكومة السراج، وتزودها بالأسلحة المتنوعة، بما في ذلك الدبابات والمدافع والطائرات المسيّرة بدون طيار مخالفة بذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1970) الصادر في مارس 2011، الذي فرض حظرًا على تصدير الأسلحة إلى ليبيا.
ثم بدأ التدخل العسكري التركي سافرًا، وبإعلان رسمي، إثر توقيع أردوغان والسراج اتفاقيتين في 27/ نوفمبر 2019، الأولى تتعلق بتحديد الحدود البحرية بين الدولتين رغم أنه لا توجد حدود بحرية بينهما، والثانية تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري بين الحكومتين. وبناء عليهما وافق البرلمان التركي (الواقع تحت هيمنة أردوغان) على طلب أردوغان إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا لدعم حكومة السراج.
لعل أكثر جوانب التدخل التركي خطرًا إرسال أردوغان مرتزقة من سوريا إلى ليبيا للقتال بجانب قوات ميليشيات حكومة السراج ضد الجيش الوطني الليبي التابع لمجلس النواب المنتخب. وقد وصل تعداد هؤلاء المرتزقة وفقًا لبعض التقارير الإعلامية إلى (17.000) مرتزق سوري، معظمهم من العرق التركماني. وفي ذلك دلالة على أن الصراع في ليبيا سيتحول إلى صراع بين القومية العربية والقومية التركية الغازية.
وبالرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلنه طرفا النزاع في ليبيا لإتاحة الفرصة لحوار ليبي - ليبي في ليبيا، يهدف إلى إيجاد حل سياسي للأزمة، إلا أن تركيا تواصل إرسال الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا؛ وهو ما يؤكد رغبة القيادة التركية في تصعيد واستمرار النزاع.
بعد هذه المقدمة الوجيزة عن التدخل التركي نحاول أن نسلط بعض الضوء على موقف القانون الدولي من استخدام المرتزقة وتدريبهم وتمويلهم، والمسؤولية التي تقع على أردوغان والسراج من جراء جلب واستخدام المرتزقة في الصراع الدائر في ليبيا؛ فنقول بإيجاز شديد ما يأتي:
أولاً: توجد ثلاث وثائق دولية تعالج مسألة استخدام المرتزقة في المنازعات المسلحة الدولية وغير الدولية، الوثيقة الأولى هي البروتوكول الإضافي لعام 1977، الملحق باتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، والوثيقة الثانية اتفاقية منظمة الوحدة الإفريقية لعام 1977 بشأن القضاء على المرتزقة، التي دخلت حيز التنفيذ في 22/ إبريل 1985، والوثيقة الثالثة اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1989 بشأن مناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، التي دخلت حيز التنفيذ في 20/ أكتوبر 2001.
وسنركز في هذا المقال بالقدر اللازم لأغراضه على الاتفاقية الأخيرة باعتبارها الأحدث والأشمل، فضلاً عن أن ليبيا انضمت إلى هذه الاتفاقية؛ وبالتالي لا جرم أن تطبق أحكامها على جلب واستخدام المرتزقة على إقليمها.
ثانيًا: عرفت المادة الأولى من اتفاقية الأمم المتحدة المرتزقة على النحو الآتي:
1 - «المرتزق» هو أي شخص:
(أ) يجنَّد خصيصًا، محليًّا أو في الخارج، للقتال في نزاع مسلح.
(ب) يكون دافعه الأساسي للاشتراك في الأعمال العدائية هو الرغبة في تحقيق مغنم شخصي، ويُبذل له فعلاً من قِبل طرف في النزاع أو باسم هذا الطرف وعد بمكافأة مادية، تزيد كثيرًا على ما يوعد به المقاتلون ذوو الرتب والوظائف المماثلة في القوات المسلحة لذلك الطرف أو ما يدفع لهم.
(ج) ولا يكون من رعايا طرف في النزاع، ولا من المقيمين في إقليم خاضع لسيطرة طرف في النزاع.
(د) وليس من أفراد القوات المسلحة لطرف في النزاع.
(هـ) ولم توفده دولة ليست طرفًا في النزاع في مهمة رسمية بصفته من أفراد قواتها المسلحة.
2 - وفي أية حال أخرى، يكون المرتزق أيضًا أي شخص:
(أ) يجنَّد خصيصًا، محليًّا أو في الخارج، للاشتراك في عمل مدير من أعمال العنف يرمي إلى:
(1) الإطاحة بحكومة ما أو تقويض النظام الدستوري لدولة ما بطريقة أخرى.
(2) تقويض السلامة الإقليمية لدولة ما.
(ب) ويكون دافعه الأساسي للاشتراك في ذلك هو الرغبة في تحقيق مغنم شخصي ذي شأن، ويحفزه على ذلك وعد بمكافأة مادية، أو دفع تلك المكافأة.
(ج) ولا يكون من رعايا الدولة التي يوجَّه ضدها هذا العمل، ولا من المقيمين فيها.
(د) ولم توفده دولة في مهمة رسمية.
(هـ) وليس من أفراد القوات المسلحة للدولة التي ينفَّذ هذا العمل في إقليمها.
ثالثًا: مما سبق يتضح أن أهم الشروط الواجب توافرها في المرتزق أن يكون أجنبيًّا، ليس من رعايا طرف في النزاع، وأن هدفه هو تحقيق مغنم شخصي. وهذه الشروط تنطبق على المحاربين السوريين الذين جلبتهم تركيا إلى ليبيا؛ فهم ليسوا من مواطني ليبيا، وجاؤوا للقتال بجانب ميليشيات حكومة السراج مقابل رواتب شهرية، تتراوح بين (2000) و(3000) دولار أمريكي، إضافة إلى وعود بتجنيس بعضهم بالجنسية التركية في حال الاستمرار في القتال في ليبيا لمدة ستة أشهر. وأفادت تقارير إعلامية بأن حكومة قطر تكفلت بالمساهمة بدفع رواتب تكاليف تدريب ونقل هؤلاء المرتزقة إلى ليبيا.
رابعًا: نصت المادة الثانية من الاتفاقية على أن كل شخص يقوم بتجنيد أو استخدام أو تمويل أو تدريب المرتزقة، وفقًا لتعريفهم الوارد في المادة (1) من هذه الاتفاقية، يرتكب جريمة في حكم هذه الاتفاقية.
كما أضافت المادة الثالثة من الاتفاقية ما يأتي:
كل مرتزق، حسبما هو معرَّف في المادة (1) من هذه الاتفاقية، يشترك اشتراكًا مباشرًا في أعمال عدائية، أو في عمل مدبر من أعمال العنف، تبعًا للحالة، يرتكب جريمة في حكم هذه الاتفاقية.
فهذا النص يشمل جميع أعمال الارتزاق، سواء بالاشتراك في نزاع دولي أو غير دولي.
خامسًا: حظرت الفقرة (1) من المادة الخامسة على الدول تجنيد المرتزقة؛ إذ جاء نصها كما يأتي:
لا يجوز للدول الأطراف تجنيد المرتزقة أو استخدامهم أو تمويلهم أو تدريبهم، وعليها أن تقوم - وفقًا لأحكام هذه الاتفاقية - بحظر هذه الأنشطة. كما نصت الفقرة (2) من المادة الخامسة على أنه لا يجوز للدول الأطراف تجنيد المرتزقة أو استخدامهم أو تمويلهم أو تدريبهم لغرض مقاومة الممارسة الشرعية لحق الشعوب غير القابل للتصرف في تقرير المصير، حسبما يعترف به القانون الدولي، وعليها أن تتخذ الإجراءات المناسبة، وفقًا للقانون الدولي، لمنع تجنيد المرتزقة أو استخدامهم أو تمويلهم أو تدريبهم لذلك الغرض.
ثم أوجبت الفقرة (3) من المادة الخامسة أن تعاقَب الدول الأطراف على الجرائم المنصوص عليها في هذه الاتفاقية بعقوبات مناسبة، تأخذ في الاعتبار الطابع الخطير لهذه الجرائم.
سادسًا: من النصوص سالفة الذكر يتضح أن اتفاقية الأمم المتحدة لم تجرم عمل المرتزق الذي يقاتل من أجل المغنم الشخصي فحسب، بل جرمت أيضًا كل شخص يقوم بتجنيد أو استخدام أو تمويل أو تدريب المرتزقة؛ ولذلك يمكن القول إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعتبر قد ارتكب جريمة بتجنيده وإرساله المرتزقة إلى ليبيا، واستخدامهم في النزاع الدائر على أرضها. كما أن فايز السراج يعتبر شريكًا له في ارتكاب هذه الجريمة لموافقته على استقبال هؤلاء المرتزقة، واستخدامهم في القتال ضد الجيش الوطني الليبي، ودفع رواتبهم.
كما أن الدولة التركية تتحمل أيضًا المسؤولية الدولية عن ارتكاب هذه الجريمة وما يترتب عليها من أضرار في ليبيا؛ ذلك أن الفقرة (أ) من المادة الـ(16) من الاتفاقية قررت أن تطبيق هذه الاتفاقية لا يمس (أي لا يخل) بالقواعد المتعلقة بالمسؤولية الدولية للدول. فالدولة التركية التي وافق برلمانها على التدخل العسكري في ليبيا تتحمل المسؤولية الدولية عن ارتكاب جريمة جلب واستخدام المرتزقة في ليبيا، وتمويلهم وتدريبهم، كما تتحمل المسؤولية الدولية عن تصرفات وجرائم هؤلاء المرتزقة، وهي ملزمة بموجب هذه المسؤولية بتعويض الليبيين الذين أصابتهم خسائر وأضرار نتيجة استخدام هؤلاء المرتزقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فريق الأمم المتحدة المعني باستخدام المرتزقة أوضح في بيان له أن انخراط تركيا في عمليات تجنيد واسعة النطاق، ونقل المرتزقة السورين للمشاركة في الأعمال العدائية في ليبيا لدعم حكومة السراج، يقوض الحل السلمي للأزمة. وأضاف بأنه قد تم تجنيد هؤلاء المقاتلين من الفصائل المسلحة السورية المتهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في سوريا، وأن بعض هؤلاء المرتزقة من الأطفال أقل من 18 عامًا. وحذر الفريق الأممي من أن من شأن ذلك تصعيد النزاع في ليبيا، وتقويض احتمالات التوصل إلى حل سلمي، ويلقي بتداعيات مأساوية على السكان المحليين.
من ناحية أخرى، تزعم حكومة السراج أن الجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر يستعين بمرتزقة روس وسودانيين. وهذه الاتهامات دحضتها الأمم المتحدة بإعلان لجنة خبرائها في 20/ يناير 2020 غياب أي أدلة موثوقة تثبت صحة الاتهام. كما أن الرئيس الروسي بوتين أعلن مرات عديدة أنه لا علاقة لبلاده بأي مقاتلين روس أو غير روس في ليبيا، بينما أردوغان اعترف متباهيًا بتجنيد المرتزقة وإرسالهم إلى ليبيا؛ ولذلك ثبتت مسؤوليته الجنائية، وتأكدت المسؤولية الدولية لبلاده.
** **
بقلم: خالد أحمد عثمان - محامٍ وكاتب سعودي