فيصل خالد الخديدي
تفرد الفنان في أعماله، ونموه وتطوره في أساليبه، ليست بالأمر الهين ولا اليسير، ولكنها ليست بالمستحيلة؛ وهو ما يتطلب كثيرًا من الدربة والتمكن والمتابعة لكل ما هو جديد، وسعة الاطلاع في شتى المجالات الثقافية والفنية والحياتية، والبحث والتقصي، ولو تطلب الأمر قلة الإنتاج والانتقائية والندرة في العرض, والاهتمام بالجودة والنوعية وعمق الطرح على حساب غزارة الإنتاج والحضور والوجود الدائم. ولعل الفنان السعودي بكر شيخون استوعب مبكراً أهمية المنجز الإبداعي العميق في الطرح الذي يستحق أن يظهر بشكل متفرد ومتميز حتى لو كان نادراً في الظهور، وقليلاً في العدد بالنسبة للعمر الزمني لوجوده في حقل الممارسة التشكيلية, وكان مدركاً دور الثقافة وأهميتها في بناء فكر الفنان وتطور منجزه؛ فأيقن بأن أدوات الفن وقيمه التشكيلية المعروفة لم تعد تكفي لتلبية حاجاتنا الفكرية والوجدانية، ولا بد من البحث عن طرق جديدة للتعبير..
الفنان بكر شيخون من فناني الجيل الأول في مسيرة الفنون التشكيلية في السعودية، وهو من مواليد 1946م، حصل على دبلوم التربية الفنية من معهد المعلمين بالرياض عام 1968م, وحصل على دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة بروما عام 1980م. له العديد من المشاركات الفردية والجماعية والمعارض الشخصية، وحصل على العديد من الجوائز. مرَّ منجزه الفني بمراحل عدة، وتميزت في كل مرحلة بسمات عدة، أكسبته الخصوصية والتفرد، وهي كالآتي:
o واقعية البدايات:
مرحلة البدايات عادة تكون مرحلة التأسيس والدراسة للأشكال والأساليب، ومحاولة البحث عن حضور شخصية الفنان فيها. وبالنسبة للفنان بكر شيخون اهتم بالأعمال الواقعية، وبرز إتقانه وإجادته للتشريح والنسب والظلال والضوء في أعمال البدايات، إما من خلال رسوم البورتريه، أو التجسيد الكامل في مواضيع إنسانية ومشاهد من البيئة المحلية، وكانت المرأة حاضرة في أعمال هذه المرحلة التي تليها من خلال وجوه عادة ما تميل للسكون والثبات والصرامة, وحتى في رسمه الموديل حضرت شخصية الفنان بكر فلم تأسره الأسس الأكاديمية، ولا جوانب النسب والتشريح، بل يضيف لها شيئًا من رؤيته مثلما حدث في عمله المعنون بالكوتشينه الحمراء، أو ريتا 2 الذي أنتجه في عام 1977م لموديل رسمها بطريقته جاعلاً منها سيدة ورقة اللعب (الكوتشينه) بانعكاس وتكرار للموديل.
o الحضور الهندسي والزخرفي:
في هذه المرحلة حضر الحرف العربي مع الزخارف والوحدات الهندسية والإسلامية مع بقايا من الوجوه الإنسانية في بناء رصين متنوع الملامس والسطوح بين بارز وغائز بخامات مختلفة، منها البرونز والرخام والمعاجين في مواضيع تراوحت بين إنسانية وزخرفية تزيينية، ولكن بتفرد دونما تقاطع أو توازٍ مع تجارب غيره من الفنانين، وإن طرق المواضيع التي تطرق لها غيره من الفنانين، ولكن شخصيته كانت حاضرة في أعماله. وفي أثناء مرحلته هذه قدم الفنان بكر عملاً متجاوزاً في الطرح والفكر، ومهيأ بشكل مبكر لمرحلة قادمة، اعتمدت على الفكرة مع حضور الجمال والإتقان. ففي عام 1984م قدم الفنان بكر عمله (الريال)، وهوة عبارة عن صورة مكبرة لطرف ريال مكتوب عليها (مات أبي وأورثني أف ريال. يا ليت كان ألف أب وماتوا جميعاً فكان ورثي ألف ألف ريال). وهي عبارة صادمة ومدهشة في معناها وفي حضورها تلك الفترة على عمل فني، ومعلنة رفضه ونقده لطغوة المادي على الإنساني في العلاقات الحياتية.
o دهشة ما بعد اللوحة:
كنتيجة طبيعية لسعة الاطلاع والانفتاح الثقافي والمعرفي للفنان ينعكس ذلك على منجزه الفني، وهو ما برز في هذه المرحلة من أعمال الفنان بكر شيخون التي بدأ معها مرحلة أكثر دهشة وصدامًا للنظرة النمطية للمتلقي, والأكثر اشتغالاً على الفكر الجمالي, والجمال العقلي، وليعلن في مرحلته هذه سمات عدة، ميزت منجزه الفني، منها: أعماله أصبحت مشاريع على هيئة نصوص بصرية مفتوحة قابلة للتأويل والتفسير والفهم المتعدد, واشتغال أعماله على نقد المجتمع والممارسات غير الإنسانية غير السوية بمختلف مستوياتها. كما وسع الفنان دائرة مشاركة المتلقي في العمل؛ ليصبح شريكاً في التأويل والتعاطي مع الأعمال. وعلى الرغم من اختلاف الخامات والتنوع في الأفكار في مشاريع هذه المرحلة إلا أن هناك رابطًا وتسلسلاً أشبه بخيط رفيع، يجمع أطراف الأعمال، وينسج روابط مشاريعه. المتعة البصرية حاضرة في مشاريعه الفكرية جنباً إلى جنب مع الفكرة ورمزية فلسفته. اهتمامه بالهاجس الإنساني وحضوره في أعماله بشكل بارز أو ضمني. قدم مشاريع صادمة ومستفزة لتفكير المتلقي، تدعو لاستمرار التحليل والربط من المتلقي حتى بعد مغادرة العمل. ومن أول مشاريع هذه المرحلة مجموعة (كتلة حائرة, انسحاب كتلة, كتلة مكبلة)، التي خالف الفنان فيها الأوزان الطبيعية والكتل المنطقية في إشارة إلى اختلاف الموازين واختلال المكاييل والقوى. كما يأتي عمل (آلة الفوشار) برمزية تتجاوز المنطقة الآمنة في اسم العمل إلى مقولة (تمخض البعير فولد فأراً)، أو (فاض الكيل وأخرج فشاراً). ومن الأعمال المهمة والملهمة للفنان بكر عمل السلم المقلوب الذي أنتجه في عام 2000م، والكرسي والبيضة الذي يحتوي على كثير من الخلخلة والتأرجح والقلق. وحضرت أعمال فكرية بمستويات متعددة في هذه المرحلة، منها تناصيات مع أعمال مشهورة لفنانين عالميين، مثل عمل الصرخة لمونش، وعمل الفنان (بانج شاوبن)، ولكن بإضافة وتطويع فكري لصالح مشروع الفنان بكر شيخون المتجدد. ولم يغفل الفنان بكر في مشروعه الفني حضور فن الفيديو بشكل مبكر من خلال عمل الفيديو (حجرة التنفيس).. الفنان بكر شيخون فنان مُقل في إنتاجه لكنه عميق في طرحه، لا يحب كثرة الظهور، ولكن يوشم حضوره في الذاكرة الفنية بأعمال إبداعية خالدة متفردة متجددة، لها شخصية مستقلة، تميز بكر شيخون عن غيره.