د. صالح بن سعد اللحيدان
كتابة التاريخ وتدوين الوقائع وسرد الأخبار وتراجم الأماكن والرواة كل ذلك ليس كغيره من تدوين الحالات الحاصلة خلال سنين وسنين؛ لأن التاريخ رواية، ولأنه خبر، وهو إلى هذا قصة حكت وتحكي أموراً حاصلة قبل الكتابة وقبل التدوين.
كل هذا يحتاج إلى العقل المتمرس البصير؛ فجمع الأخبار وسرد القصص عن قوم أو أمة أو جماعة يحتاج إلى أمور لا بد منها في مثل هذا..
من هذه الأمور ما يأتي على شكل مختصر:
1- الاستعداد النفسي الجيد.
2- الاستعداد الذهني.
3- التهيؤ العقلي.
4- دقة المسار والتثبت.
5- صدق ووعي وفهم السند.
6- شدة المراجعة والسؤال والمراجعة.
7- معاودة القراءة، وكثرة النظر مع حسن تدبر.
8- إعادة النظر عند بيان الخطأ، وذلك بالعودة إلى الأصول المسندة، وليست تلك التي تسرد دون سند موثوق.
والعقل يقتضي جزماً الصدق في الكتابة حتى ولو اضطر العاقل إلى أن يرحل من بلد إلى بلد آخر؛ ليتثبت من سند ورواة الحقيقة. والنظر العقلي زبدته ومراده الوصول إلى الحقيقة دون سواه.
ولا يمكن التدوين والتأليف وتسطير التاريخ وكتابة الأخبار. لا يمكن ذلك إلا بنقل صواب، يتفق فيه النص الصحيح المسند مع العقل السليم..
ولهذا سقطت كثير من الكتب حينما تم رصد آثارها وأخبارها ورواياتها، وأنها إنما بنيت على غير أساس فقط؛ هذا ينقل من ذاك مع تغيير طفيف.
وهنا يظن الظان أن الخبر أو الرواية أو الموضع قد بلغ حد التواتر بتكرار الذكر في خمسة كتب تاريخية مثلاً.
والتواتر ليس معناه أن أجد خبراً أو رواية أو أثراً في عشرة كتب فيكون هذا هو التواتر، ليس كذلك.. لكن التواتر أن يرد الأثر أو الرواية بأسانيد عدة مسندة صحيحة إلى المتن. هذا هو التواتر.
فيكون المتن - أي الخبر أو القصة أو الواقعة - يروي السند جماعة عن جماعة أخرى، لا يعرف بعضهم بعضاً. فالأسانيد متعددة، والخبر أو المتن واحد. ولعل طغيان اسم المؤلف يعطي طريقاً إلى تصديق ما يكتبه، والشهرة أحياناً مشكلة، لعلها تقصي العقل لتحل محله العاطفة؛ فينتج من هذا العجلة وسرعة التصديق.
ولهذا كان ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - كثيراً ما يقول للقائل إذا سمع خبراً أو أثراً: «سمعوا لنا رجالكم». يريد: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن فلان حتى يصل إلى: (الرواية) كما ذكر مسلم هذا في مقدمة (الصحيح).
وهو ما نص عليه كبار العلماء حماية للصحيح وإبعاداً للضعيف والمكذوب من الأخبار والروايات والوقائع.
ولعل من نافلة القول أن هناك بعض الحوادث قد دُونت وتناقلها الإخباريون وكتّاب الروايات، قامت بسببها حروب واختلافات وتطاحن. ولو أنهم اتبعوا الأسانيد وطرق النظر وطرق الموازنة وتكرار نظر حقيقة وضبط رواة الأخبار لما حصل ما حصل.
والمثل يغني عن كثير من القول.
فخذ مثلاً: رواية إسلام (أبي طالب).
وخذ مثلاً: (قصة الغرانيق).
وخذ مثلاً: (الجساسة).
وكذا: (قبر علي بن أبي طالب).
ومثل ذلك: نسبة كتاب (أخبار الحمقى والمغفلين) وأنه لابن الجوزي.
وخذ أيضاً: نسبة كتاب (الإمامة والسياسة) وأنه لابن قتيبة.
إذاً هذه أمثلة ماثلة، لما انعدم السند بطل الإفك.. وما يدونه المدونون على العلات.
فالتاريخ: رواية/ وخبر/ وقصة/ وأثر.. لكن لا بد من صحة ذلك بسند ماثل صحيح مقيم.