د. إبراهيم بن محمد الشتوي
في المقولة المشهورة (ولا أدري من قائلها ولا أساسها من الصحة)، إن العظماء يتحدثون عن الأفكار، والعاديين يتحدثون عن أنفسهم، والصغار يتحدثون عن الآخرين، تظهر الأفكار هي المادة المهمة لشغل العظماء ولصناعتهم، في حين أن الذين يهتمون بأنفسهم وينشغلون بها يظهرون بدرجة أقل قيمة من حيث العظمة، في حين أن أقل المجموعة قيمة هي التي تنشغل بالآخرين.
لا أدري على وجه الحقيقة أهذه المقولة مبنية على دراسة دقيقة، أم على ملاحظات عدد كبير من الناس، أم أنها خاطرة في ذهن أحد الفلاسفة والمفكرين، بناء على أهمية الأفكار لديه وقيمتها في تطوير الحضارة الإنسانية، لكن من قال: إن الذات أقل قيمة من الأفكار، وهل الأفكار تأخذ قيمتها إلا من قيمة الذات، ثم إن ميشيل فوكو جعل «الانهمام بالذات» في كتابه «تاريخ الجنسانية» السبب في قيام الحضارة الحديثة، ومثل ذلك القول في «الآخرين»، فكثيراً ما تستمد الذات قيمتها من الآخرين، ونحن نستمد أيضاً وجودنا من وجود الآخرين، فلا نكون ذاتاً إلا بهم.
سأترك تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام بناء على الأهمية المفترضة لكل موضوع، وننظر إلى ما يشغل الناس في مجالسهم، أو ما يستمتع الناس في الحديث حوله. هناك مقولة أخرى أيضاً (لا أدري من قائلها، ولا ما صحتها) تقول: إذا اجتمع الرجال تحدثوا عن أعمالهم، وإذا اجتمعت النساء تحدثن عن رجالهن.
لن أناقش هذه المقولة مناقشة فلسلفية كما نفعل عادة نحن الأكاديميين والمفكرين والكتاب ومن أخذ بصناعتنا أو أدركته حرفتنا، وإنما سأنتقل إلى موضوع آخر، وهو مبني على قول الشاعر: «وأن الحرب أولها الكلام»، فكثيراً ما تجر أحاديث الناس المجتمعة المتحدثين إلى الخصام خاصة حينما يكون الحديث عن «الأفكار» مادة العظماء كما في القول السابق، إذ يبدأ الأمر بالحوار ثم النقاش ثم الجدال إلى أن يصبح خصومة وقطيعة، وقد قيل فيه «إنه يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقدة الوثيقة»، ففيه المغالبة «والمغالبة من أمتن أسباب القطيعة».
فالحديث عن «الأفكار» قد لا يكون دائماً جيداً أن تملأ به المجالس حيث إنه لا يؤدي إلى المتعة الحقيقية للجالسين، وليس بالضرورة يسهم في جمع القلوب وتأليف الناس بغض النظر عن حجم ونوع الذين يعنون به، ولذا فهو ليس من الحديث المحبب إلى كثير من الناس، لصعوبته وقلة الذين يستمتعون به ويقدرون عليه، ولما يجره من عداوات.
ولا يختلف الحال بالنسبة للحديث عن النفس، فهو ممل، وغالباً ما يأنف الحاضرون من الذي يديم الحديث عن نفسه، ويملأ أسماع الناس بمغامراته أو ببطولاته، وربما عاد موضوعاً للسخرية والاستهزاء، لا يلبث أن ينفض سامر الناس من حول المتحدث.
لم يبق إلا النوع الثالث وهو «فاكهة المجلس»، الحديث عن الآخرين، واغتيابهم، وما يتبع ذلك من الكذب عليهم والوقوع -ربما- في أعراضهم، وهو الذي يستأثر بالمجالس، ويجتمع الناس عليه، وقد يقرب بين الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا.
ولا شك أن هذا النوع من الحديث هو المقصود بأنما ينشغل به الصغار، وقد يكون من المؤلم أن يكون أغلب الناس بناء على هذه المقولة، وبناء على أنه هو الغالب في أحاديث الناس، أن يكونوا صغاراً.
ولكن حتى لا نستعجل بهذا الحكم، ينبغي أن نتحقق ما إذا كان كل حديث عن الآخرين يتجه نحو هذه الوجهة، وإذا لم يكن من الممكن أن يكون الحديث عن الآخر مثمراً على صورة من الصور.
لا شك أن الحديث عن الآخرين، يكشف فيما يكشف، الانشغال بهم بصورة من الصور، وهذا ما يعني أنهم يأخذون مساحة من اهتمامنا، لكنه في الوقت نفسه قد يكون مثمراً حين يكون لاستلهام الدروس والعبر، أو محاولة فهمهم والقدرة على التعامل معهم. كما أنه ليس بالضرورة أن يكون متصلاً بشخص بعينه، وإنما يدور حول جماعة من غير تخصيص على غير محمل السخرية والاستهزاء، وهذا يجعل المتحدث به كبيراً إذ يدرك نقصه، ويحاول أن يضيف إلى نفسه مزيداً من الفضل، وعلى هذا جاء ما يروى عن ابن المقفع أنه سئل مرة عن سبب هذه الحال التي صار عليها من الفضل والأدب وكريم الخلق، فقال: ما أحببت صفة في أحد إلا اتصفت بها، وما كرهت خلقاً في آخر إلا ابتعدت عنه.