د.زكية محمد العتيبي
أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميل
هو شامَةٌ في الضوء تومئ
حين يرشدنا إلى الكلماتِ
باطننا الدليلُ
هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ…
أَثرُ الفراشة لا يُرَى
أُثرُ الفراشة لا يزولُ!
يُخيّل إليّ أنّ محمود درويش عندما كتب قصيدته (أثر الفراشة) في كتاب يومياته المُعَنون باسم القصيدة لم تغب عنه -وهو المثقف الفيلسوف- (نظريّة الفراشة)، أو ما تسمى بـ(نظرية الفوضى) في الفلسفة الفيزيائية، وكأنّه يدرك جيّدًا ما يحمله هذا المصطلح المجازي من معنى عندما جعله في مُستهلّ قصيدته وختامها. فالمُطّلع على القصيدة سيراها خير رواية شعريّة لتلك النظريّة التي تُفسَّر تحت ظلها تداعيات الأحداث المؤدية إلى التغيرات الكبيرة على المستويات كافة.
تقول النظريّة: «إنّ رفرفة أجنحة فراشة في البرازيل قد تؤدي إلى إعصار في ولاية تكساس».
فالنظريّة تقوم على فكرة مفادها أنّه يمكننا تفسير كلّ حدث من خلال البحث عن الأسباب الصغيرة الأولى التي أدّتْ إليه من مواقف قد نتجاهلها، أو نُهمّشها، ولا نلقي لها بالًا، لكنّها تُحدث عظيم الأثر. فرفرفة الفراشة لا نرى منها إلا جمال المشهد والألوان. والذي لا نراه: أنّ هذه الرفرفة ليست معزولة عن الكون؛ فالفراشة عندما ترفرف في الهواء ترفرف ضمن حيّز هوائي مُتّصل، ومن البدهي أن يتأثر هذا الحيّز، ويؤثر على بقيّة سير الهواء في الكون، وهذا ما لم نره!
إنّه الأثر ذاته الذي يحدث عند إزالة حبّة رمل واحدة من مكانها؛ فلا يمكن فعل ذلك دون تغيّر شيء من أجزاء الكلّ الذي لا حدود له في هذا الكون من الرِّمال الزاحفة عبر الحدود.
أثر الفراشة الذي لا يُرى يحدث كلّ يوم، ويصنع له تاريخًا من التغيرات منذ رسخ في القناعة البشريّة أنّ «معظم النار من مستصغر الشرر»؛ فمنذ ذلك التّحذير حتى يومنا هذا وأثر الفراشة الذي لا يرُى لا يزول حتى يُحدثُ أثرًا آخر لا يُرى إلا بعد حين، كما يحدث في تفسير ظاهرة البرودة الطارئة على المناطق الحارة لوجود طارئ على المناطق الباردة.
إنّ أثر الفراشة الذي لا يُرى ولا يزول يتمثل في مستصغر الشرر، والصغيرة التي يجب ألا تُحتقر، والجبال التي تعاظمت بالحصى حتى صارت ركيزة من ركائز الأرض كي لا تميد بنا.
إنّه كلّ فكر توغّل في مجتمعات ليس منها، وكلّ أدبيّات نبتتْ في الظلام؛ فتشكّلت منها أمّة في وسط أمّة.
أثر الفراشة يظهر جليًّا في الرسائل التي تُمرّر في المجالس الوديّة تحت ذريعة الثقافة الجديدة، والوعي والتنوير، وفي الوسوم الملغّمة الصادمة التي تُزعزع طمأنينة القناعات، وتُزلزل مبادئ الأخلاق.
ستمضي الأزمان، وسيكون لكلّ فراشة أثرها الذي لا يُرى، ولا يزول؛ فالانفتاح العالميّ عبر مواقع التّواصل له أثر الفراشة الذي لم نره، لكنّه خلّف ثورات عربيّة، وجيلاً لا يؤمن بما يؤمن به الآباء والأجداد.
أثر الفراشة الذي لا يُرى هو: تلك الرسائل التي كانت تُمرّر على الآذان بهدوء الخاشعين، وتستوطن اللاشعور، وتكبر في الخفاء، وتتعاظم حتى صارت شجرة مُعمّرة من القيم الجديدة، فأفقنا على هوّة فكريّة سحيقة، قضمت معها ما قضمت من قيم ومبادئ وأخلاق، وأظهرت لنا جيلًا يخلط بين الأديان، وينادي بالتّحرّر منها؛ لأنّها في نظره سلطة خانقة!
أثر الفراشة الذي لا يُرى هو أعظم ما يُهدد قيم البشريّة واستقرارها الديني والاجتماعي والاقتصادي عبر العصور.