د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
ويمضي الشاعر في بيان ما آل الأمر إليه:
اللهَ في أَرْضٍ مُعانِقَةٍ
نَهَرَ الجُنونِ رِياضُها الأُنُفُ
فسبحان الله، فهذه الأرض ذات أجمل الرياض المعشبة التي لم يفسدها الأشرار لم تسلم ولم يسلم لها هذا العناق، والرياض جمع روضة وهي «ماء ونبات في موضع مطمئن مُتَسَفِّل»(1). «وروضة أُنُفٌ بالضم، أي لم يَرْعَها أحد»(2)،
وهذه الأرض ونهرها المجنون اقتربت نهايتها
حَتّى إِذا يَأْجوجُها نَسَلَتْ
وَوَراءَها مَأْجوجُها رَدِفُوا
تُشْلي جِراءَ الشَّرِّ نابِحَةً
وَتَصُولُ فيها خَيْلُها العُجُفُ
هذه الأرض سلط عليه عدوّ منها (يأجوجها ومأجوجها)، ويذكرنا البيت بقصة (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) في قوله تعالى {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}[94-الكهف] وقوله {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}[96-الأنبياء]، و(تشلي) استعملها الشاعر متوسعًا فيه، وهو إطلاق الكلاب للصيد، وهو استعمال مختلف عن الوارد في المعجمات «قال ثعلب: وقول الناس: أَشْلَيْتُ الكلب على الصيد، خطأ. وقال أبو زيد: أَشْلَيْتُ الكلب: دعوته. وقال ابن السكيت: يقال أوسدت الكلب بالصيد وآسدته، إذا أغريته به. ولا يقال أشليته، إنما الإشلاء الدعاء»(3). واستعمل الشاعر (الجراء) لا الكلاب رغم توافقهما صرفًا وعروضًا؛ لأن الجراء أضعف وأهون وليست لها ضراوة الكلاب المدربة، واستعمل أيضًا (العُجُف) وهو الجمع القياسيّ لأعجف عجفاء، وهو خلاف المسموع، قال الرازي «(الْعَجَفُ) الْهُزَالُ وَبَابُهُ طَرِبَ فَهُوَ (أَعْجَفُ) وَالْأُنْثَى (عَجْفَاءُ) ... وَالْجَمْعُ (عِجَافٌ) بِالْكَسْرِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ أَفْعَلَ وَفَعْلَاءَ لَا يُجْمَعُ عَلَى فِعَالٍ؛ وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى سِمَانٍ وَالْعَرَبُ قَدْ تَبْنِي الشَّيْءَ عَلَى ضِدِّهِ»(4). ولا ضير في رأيي في استعمال جمع قياسي وإن سمع غيره واستغني عنه. فهؤلاء القوم (يأجوج ومأجوج) استطاعوا بجراء وخيول هزيلة من التمكن من هذه الأرض.
وهنا استيقظ العقل وانتبه الغافل وكان النذير:
جُنَّ الحِجا فَدعا مُؤَذِّنُهُ
وَيْلٌ لِّمَنْ عَرَفوا وَما اغْتَرَفوا
وحين يجن العقل يكون الاضطراب واختلال المعايير حتى أنذر الذين يعرفون ما يجري ويحدث ولكنهم عفّوا وترفعوا فلم يغترفوا من هذا النهر المجنون، ونتذكر (باغترفوا) نهر طالوت في قوله تعالى { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}[249-البقرة].
فما شأن الناس وهذا النهر؟
فَالوارِدُوهُ عَلى جُنُونِهِمُ
عَقَلوا الزَّمانَ وَجُنَّ مَنْ صَدَفوا
وَالشَّارِبُوهُ لَهُمْ مُسَهَّلَةٌ
أَوْعارُها، وَتُوَطَّأُ الْكُنُفُ
وساغ إدخال أل على المضاف لأن الإضافة لفظية غير محضة، وهؤلاء القوم على جنونهم عرفوا الزمان وفهموه فانتهزوا الفرصة واستعمل الفعل معدى كما في قوله تعالى {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}[75-البقرة]، وأما الذين صدفوا عن وروده فهم الذين جنوا في الظاهر في ظل ظروف مختلة. وصدف أي أعرض، كما في قوله تعالى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا}[157-الأنعام]. والواردون الشاربون من هذا النهر تسهلت لهم صعوبات الحياة، وتوطأ لهم الأكناف أي تعبّد لهم النواحي، والأكناف جمع الكَنَف، أمّا الكُنُف فجمع الكنيف، قال ابن سيده «والكَنِيف: حَظِيرَة من خشب أَو شجر تُتَّخذ لِلْإِبِلِ لتقيها الرّيح وَالْبرد، سمي بذلك لِأَنَّهُ يكنفها: أَي يستُرها ويقيها. وَالْجمع: كُنُف»(5). وربما كانت الضرورة الشعرية ما أجاءته إلى هذا الاستعمال.
وهذا الذي فعله الشاربون هو ما جعلهم يصعدون ويسكنون في أفخر مسكن
رَكِبوا مَعارِجَها وَقَد جُّعِلَتْ
لِبُيوتِهِمْ مِنْ فِضَّةٍ سُقُفُ
قال الجوهري «والمِعْراج: السُلَّم، ومنه ليلة المِعْراج، والجمع مَعارج ومَعاريج»(6).
... ... ...
(1)ابن الأنباري، الزاهر في معاني كلمات الناس، 2: 156.
(2) الجوهري، الصحاح، 4: 1332.
(3) الجوهري، الصحاح، 6: 2395.
(4)الرازي، مختار الصحاح، ص: 201.
(5)ابن سيده، المحكم والمحيط الأعظم، 7: 59.
(6)الجوهري، الصحاح، 1: 328.
(وللكلام صلة)