ماذا يمكن تسمية هذا العصر الذي تبدلت فيه أنماط المعيشة، وطرق التكيف مع الحياة والناس، حيث تواجه أغلب القطاعات ظروفا حرجة وتحديات كبيرة فرضها فيروس كورونا المستجد، سوى بعصر التقلبات، فلم يعد هناك شيء على حاله. ومن بين القطاعات المتأثرة بهذه الجائحة هما قطاعا الدراما والسينما، أولهما انتعش والآخر يواجه مصيرا غير واضح حتى الآن.
غطاء حماية
«القراءة كملجأ في الأزمات، الكتب تتحول من ورق على أرفف المكتبة إلى أغطية تحميك من العواصف وتربّت على كتفك في المآسي»
عبدالرحمن الجندل
تختلف الطرق التي يلجأ إليها الناس في التخفيف من عبء الوقت الثقيل والقلق الفادح اللذان يعصفان بأغلب سكان العالم؛ فلكل شخص غطاؤه الذي يحميه، ومشعله الذي يتوهج به. ونكاد أن نجزم بأن هناك شريحة كبيرة من الناس اختارت مشاهدة الأعمال الدرامية التي تعرض على منصات التلفزيون أو شبكات العرض عبر الأنترنت، حيث قال تيد ساراندوس، رئيس المحتوى المرئي في شركة ومنصة «نتفليكس» في شهر مارس الماضي، «إن معدلات المشاهدة شهدت ارتفاعًا كبيرًا خلال الأسابيع الماضية منذ بدأ جائحة كورونا، حيث يفضل المستخدمون مشاهدة الأفلام والمسلسلات التلفزيونية خلال تطبيقهم لإجراءات العزل المنزلي.»
هذا يفسر لنا التوصيات الهائلة التي نشهدها بين مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، لمشاهدة مسلسلات وأفلام بعينها، والذي أدى إلى زيادة في نسبة المشاهدة وتقديم الانطباعات حول الأعمال الدرامية والسينمائية. ومن المفارقات الحاصلة هو سطوع نجم أعمال درامية قديمة، وبعضها التي كانت غير المعروفة نسبيًا. برأيي، هذه الحالة أوجدت جمهورا مطّلعا وانتقائيا لن يرضى بأي شيء يقدم له، حيث سيكون حاضرًا بعينه وعقله. لذلك، هل سيكون صنّاع الدراما من كتّاب ومخرجين أكثر جدية وإبداعاً بعد الأزمة؟
تعتقد المخرجة والكاتبة السعودية هناء العمير أن «الجمهور في العالم العربي وبالأخص في الخليج لم يتغير، فقد كان ومازال مطّلعا وواعيا لكل ما يُقدم له. وبظهور منصات العرض المدفوعة زادت فرص المشاهدة والتتبع لديه. الفارق الحاصل الآن هو توفر الوقت، وهو ما كان ينقصه».
وتضيف قائلة: «وهذا ما خلق فرصة لإنعاش الدراما، وعرض أعمال جديدة، وإعادة عرض أخرى، بينما نرى أن السينما في تراجع بسبب تأجيل المهرجانات، وإلغاء الفعاليات المتعلقة، وبسبب أوضاع صالات السينما غير الواضح للآن. في المقابل علينا أن ندرك -كصنّاع دراما- أن الإنتاج الدرامي لن يكون كما عهدناه سابقًا، وهذا يدفعنا للتفكير في مشاريع تلائم الظروف الراهنة، مع فرض التباعد الاجتماعي وإجراءات السلامة الصحية. سنكون بحاجة إلى إعادة النظر إلى كافة التقنيات والقصص وإيجاد صيغ متعددة للتنفيذ. أؤمن بالعقلية الإبداعية وبقدرتها على التكييف وخلق حلول إبداعية من الممكن أن تفتح لنا أبوابا نعبر من خلالها. المهم أن لا نتوقف ونستمر بالعمل».
مقاومة للاستمرار
الوقت الوفير لم يقدم فقط للمشاهدين وجبة دسمة من الأعمال الدرامية المتنوعة، بل أيضًا ساعد كُتّاب الدراما على الاعتصام والتأمل في مشاريعهم، وإعادة تشكيل بعضها، والتخلص ربما من البعض الآخر. كما أن بعضهم استطاع أن يتخفف من ضغوط المنتجين الذين يمسكون برقاب نصوصهم.
يحكي لنا المؤلف والسيناريست الإماراتي محمد حسن أحمد عن حالته المعاشة في الكتابة، والتي كانت بمثابة فعل مقاومة بالنسبة له: «إننا نعيش الحذر بربكة جماعية كل لحظة منذ ظهور الجائحة. ربما الكاتب الذي يضع نفسه في مواجهة الريح دائمًا يبدو حذر مع كلماته، وأفكاره، وشخصيات أعماله، أو حتى لحظاته مع الكتابة وطقوسها. لكن الحذر الذي ينشأ مع الكاتب يبقى في صيغة فردانية لذاته، بينما الآن نحن نعيش بعدا جماعيا حالكا جدًا، والأصعب هو أن يكون البشر متشابهين جدًا في خروجهم اليومي، وارتداء الكمامة، وأحاديثهم التي لا تنتهي حول كورونا، بينما الكاتب يبحث عن المختلفين وعن الأشياء التي تدهشه؛ يعيش حالة كتابة واضحة ومتسعة ولحظه صمت وهدوء وإدراك وإعادة توازن مع الأشياء حوله».
ويستطرد قائلاً: «في حالتي الخاصة ككاتب جربت البحث في الأرشيف والأوراق القديمة والملفات، والاقتراب من الأشجار في الحديقة الخلفية في حالة بحث عن الأخضر في كل شيء. بالفعل كتبت الكثير من الأفكار وانتهيت خلال جائحة كورونا من كتابة مسلسل درامي، وفيلم روائي طويل، وبدأت في مشروع بصري تسجيلي خاص، وشاركت وتواصلت مع العديد من خلال الندوات والجلسات عبر برنامج زوم».
بالنسبة له: «إنها محاولات للنهوض .. نحن نكتب ونتسع ونقاوم ونتحرك ونتنفس. هناك لحظات تبدو مرعبة لكنها جديرة بالمحاولة. الإنسان لن يتوقف عن الحياة طالما الكون مستمر. لنستمر في صناعة الأشياء المدهشة، والقصص، والحكايات دون توقف».
إثبات وجود
أثبتت بعض القطاعات الحيوية في بلدان العالم أهميتها، وبطولتها في التصدي ومكافحة فيروس كورونا، ولعل أبرزها هو قطاع الصحة. وفي المقابل نجد أن الثقافة والفنون استطاعت بشتى أنواعها، واتجاهاتها، ومدارسها، أن تثبت بأنها الرفيق الحقيقي للإنسان؛ فهي قادمة منه وترجع إليه. إنها مهربه الذي لطالما كان مليئا بالزخم الإنساني، والترفيهي، والجمالي، والفكري، والفلسفي. إنها عصارته التي تمتلئ دومًا ولا تنضب.
بهذه الكلمات بدأ لنا صانع الأفلام المستقل محمد الفرج حديثه، ليكمل قائلاً: «إن جمهور اليوم بات يعي تمامًا أهمية الفنون وأصبح يلتهمه في الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى، وهذا بطبيعة الحال يجعلنا أمام ذائقة متنوعة وأيضًا ذات صوت مسموع، فالآن يستطيع أي مستهلك للفن أن يعبر عن رأيه حول الأعمال، بل وأن يشارك أفكاره ومقترحاته مع صنّاع الفن، وهذا ما شهدناه مع الدراما بالتحديد: منصات مناقشة لأعمال درامية، وتوصيات خاصة، و أحيانًا نقد حاد».
بالنسبة له: «هذا الأمر سيجعل الصناع- والذين هم بطبيعة الحال غير غافلين عن المجريات الحالية -أكثر يقظة وجدية لما سيُطرح ويقدم مستقبلًا. لقد ساهم تكومنا في ذواتنا وتجاربنا خلال هذه الفترة أن ندرك أهمية مكوناتنا الإنسانية الأساسية والتي لن تتغير، كالحب، واللعب، والتواصل، وعلاقتنا بالأرض، وتراكمنا كأفكار متراصة تصنع تاريخنا. هذه مواضيع يجب أن لا نغفل عنها في مشاريعنا القادمة».
** **
- زهرة الفرج