د.عبدالله الغذامي
تصور فيلسوفًا مفكرًا وباحثًا طليعيًا يظهر في قاعات الدرس الأكاديمي لابسًا بدلة نازية، وهذا أمر حدث مع مارتن هايدجر زمن عز النازية في ألمانيا، وهي الحادثة التي ظلت تشغل الباحثين بما أنها تكشف عن العلاقة المتلبسة بين الفكر الحر من جهة والسلوك المضاد لكل معنى حر.
وفي شواهد حال البشر تتجاور المتضادات في درجات من معرفة حرة وبجانبها درجات من الأدلجة، وتظهر الأدلجة حين تصل قوتها درجة مرتفعة، وهذا يشبه علاقات الصحة والمرض في الجسد حيث تتجاور الصحة والمرض في الجسد البشري وتظل كل واحدة منهما ممكنة ظرفيًا وواقعيًا، ويتصدر أحدهما حسب قوته وحسب انهزام الآخر أمامه.
ولعل مثال الصحة والمرض هو الأقرب للتصور في حال الفكر وعالم المعرفة وكل واحد منا فيه درجات تتغالب حسب دواعي التغالب لدرجة ترى شخصًا حرًا وإنسانيًا، ثم ينقلب عكس ذلك، وكل حالة تحتاج تأملاً يتصل بها، وليس هناك قاعدة عامة مطلقة، ولكن الحالات تظهر حين تصل لأعلى درجات حضورها كما حدث من هايدجر الذي لبس البدلة دون حاجة لهذا الفعل بهذه الصيغة، وهو اختاره ليعلن موقفه أمام العالم كله بصورة لا لبس فيها مما يعني تغلب هذه القناعات عليه رغم أن رأسه مكنوز بالفكر الفلسفي الحر والابتكاري تمامًا كما يتحول الصحيح لمعلول وتعلن العلة عن نفسها بعلامات جلية يتوشم بها البدن. ولنا أن نستذكر عربيًا قصة سعيد عقل الذي أسس جماعة حراس الأرز، وهي جماعة متطرفة حملت السلاح أثناء الحرب الأهلية اللبنانية 1975، وكان سعيد عقلاً ملهمًا هذه الجماعة اليمينية المتطرفة، وكان شعارها (لبيك لبنان) وهو شعار صاغه سعيد عقل وآلفها مع البندقية والقتل بين الأهل والجيران، وهو الشاعر الرقيق لغة وحسًا وذوقًا، ولن نفهم حاله إلا بوضعه بإزاء هايدجر في تشابه الحال بينهما، وهي علة تحول صاحبها من المعقول إلى اللامعقول، وما تلبث الظروف أن تتبدل فيعود كل واحد منهما لسابق عهده مع نفسه، وهذه هي حال الثقافة حين يصيبها فيروس يغير طبيعتها ويقلب حالها من الاعتدال إلى الاعتلال.