قراءة - عبد الهادي الزعر:
هكذا هي ق- ق- ج منذ ظهورها منتصف القرن الثامن عشر ولحد الساعة ارتضت أن تكون خارج الإطار - - الإطار الذي كبل معظم أجناس القص بضوابط مرهقة -
فالخطاب القصصي القصير حمال معاني وولاد دلالات، يجدها القارئ النابه بين شقوق الألفاظ وثنايا المفردات رغم قلتها فانزياح اللفظة ومفراقتها توحي قراءتين معاً:
- قراءة يجسدها النص -
- قراءة يضطلع بها القارئ النموذجي
وقبل الإبحار في هذا الفن علينا استذكار خصيصة مفادها أن هذا الجنس القصصي عبارة عن بنيات مركبة شملت عدداً لا متناهياً من الدلالات والمعاني -
هي بمثابة فرشة واسعة الأطراف معنوياً على الرغم من قلة حجمها المكاني!
بمعنى آخر أن صلات شتى تجمع المرسل مع المتلقي فتجعله يؤوّل المنجز معتمداً على مرجعيات وحمولات فكرية استقاها سابقاً مهمتها الغوص والحفر بالعتبات النصية لتحديد المعنى -
فالنصوص القصيرة جداً لا تستقيم على دلالة محددة واحدة لكونها تناصات جمعت النفسي والاجتماعي والفكري على صعيد واحد -
اقرأ معي هذا النص بعنوان تفاح:
(وعدته تفاحاً أخضر، ظل ينتظر- حتى ذبلت الشجرة)
إشكالات لا حصر لها حاضرة مبثوثة على شكل أسطورة وخرافة وحكاية وأقصوصة ومأساة وملهاة ودراما كل ذلك ينضوي تحت يافطة (علم السرد) وهو علم كوني عاش مع الإنسان عبر العصور كتابيا وشفهيا -
حين التعمق في السيماييات السردية تظهر لنا ثلاثة مستويات مترابطة هي:
(الخطاب - السرد - الزمن) ولا أحب الخوض فيها لتكرارها ولكن البنيويون اهتموا بالكشف عن وظائف وأفعال الأنساق الكامنة في مجريات الحكي كما جاء في - مورفولجيا الخرافة 1928 - فلادمير بروب -
القصة القصيرة جداً لم تجئ اعتباطاً، بل هي ردة فعل بديل عن السرديات الكبرى التي احتكرت سلطة تهمبش الآخر-
في المراحل السابقة أضحت القيم في وسط الفوضى فانبرى ادغار الن بو وبودلير والداداييين إلى إعادة وإنتاج القيم من جديد -
ولهذا فرضت ظروف العصر الراهن ومتطلباته الملحة ابتكار طريقة في التعبير تواكب حياة المجتمع المتسارعة، فالإنسان شغوف لمعرفة النهايات والنتائج وليس بمقدوره الانتظار إلى الغد أو بعده - فوجدها في القصة القصيرة جداً -
فرجينيا وولف حددت موقف هذا الجنس بقولها (إن مستقبلها لا محالة صاير وسيدخل بين النثر خصائص من الشعر وهو رأي ناتالي ساروت كذلك في كتابها - الانفعالات -
وقصص حسن علي البطران الموسومة «ناهدات ديسمبر» أربى عديدها على مائة وعشرين نصاً خلى أكثرها من الترهل واتسم بالعمق الدلالي وازدان بالتكثيف ووسعة بالخيال في حشد من التضاريس والأمكنة والحالات الإنسانية المتخيلة والواقعية تمثَّلت بالجمال -
نقرأ معاً هذا النص بعنوان - ساق -
(التفت ساقي واصطدمت بساقها، أحدثت صوتاً فولد صراخاً انكشف الساق
نظرت إلى - تحاشيت النظر إلى ساقها حدث ثوران وأخمد بأمطارٍ سقطت من مكانٍ منخفض)
ما وراء السطور معان مستترة يخفيها القاص ويتكتم عليها ربما تكون حشداً من حالات وإيحاءات ودوافع نفسية واجتماعية عنت له في ساعة الإنشاء فمن الخطأ أن يعتبر هذا الجنس للمتعة فقط على الرغم من اختزاله وقصره -
ما المقصود بشعرية ق- ق- ج؟
ق- ق- ج ما زالت محتدمة الأدوار دراسياً بين المفاهيم الغربية والعربية بسبب تعريفاتها الكثيرة جداً (فأرسطو 322 قبل الميلاد) أول من نعتها بالشعرية في كتابه فن الشعر فهذه المفردة شاعت في معظم المنهجيات النقدية ويقصد بها الدراسات القائمة على علم اللغة بما فيها الأنساق الكامنة والمتوارية فهي شعرية نصية -
والشكلانيون الروس سموها «الخصائص الذاتية» بعيدة عن عوالم الاجتماع وعلم النفس وحتى البنيويون الروس استخدموا وسايط إشارية ولم يخالفوا من سبقهم -
إن النص السردي القصير جداً «حمال معاني وولاد دلالات» ففي شقوق ألفاظه ومنعطفاتها تختبأ معانٍ ومعان - (كما ذكرت في أول حديثي)
ثم إن الحذف وعلامات الترقيم وانزياح المعنى والمفارقة اللغوية والمجاز والاستعارة عوامل إنجاح هذا النوع الأدبي الجميل
ولم يكتب النجاح لقليلي الخبرة لممارستها أبداً فميدانها صعب المراس رغم صغر حجمه -
تحياتي للقاص السعودي المايز حسن علي البطران، ومزيدًا من الإبداع والتألق.
** **
- ناقد من العراق