الجزيرة الثقافية
(2007- 2020) ثلاثة عشر عاما؛ كانت سنوات حياتية فاصلة بين فكرة الكتابة وظهورها إلى العلن.. فقد استحوذت على الكاتب الدكتور إبراهيم العثيمين في لحظة شوق جارف إلى لقاء أمه وهو بعيدا عنها خلال دراسته في بريطانيا غير أن كثرة انشغالاته هي ما اضطرته للتأجيل تلك السنوات.. غير أن الدافع الرئيسي الذي جعله يحسم أمر الكتابة هو رغبة والدته التي أسرّت له بمكنونها في إحدى حواراتهما فتقول له بتنهيدة عميقة:
ــ تدري يا إبراهيم لو أني كنت أعرف أكتب زين لكتبت كتبا من معاناتي.
فكانت تلك التنهيدات كفيلة بأن ينفذ رغبتها الدفينة للغوص في لٌجي هذه المرأة الجنوبية المثخنة بالأحزان، ويطلق سراح هذا التزاحم من ذاكرتها. وهاهو يفي بوعده لها، ويُهدي إليها مذكراتها:
«إلى والدتي الغالية..سعاد مهدي هادي القحطاني (والدة فهد العثيمين) لقد كانت تراودكِ أمنية.. لطالما كانت ساكنة في روحي.. أفضيتِ بها إليّ.. وحدثتني عنها حديث الروح للروح... فكتبت هذا الكتاب لأحقق لكِ تلك الأمنية»....
وقد سجّل ابن عثيمين في مذكرات والدته كل ما هو واقع بدهيّ دون أن يعالجه أو يناقشه مستذكرا كل تجاربها وأحاسيسها وتقلباتها الحياتية بداية من طفولتها وانبثاقها بين الجبال الشاهقة في مسقط رأسها الجنوبي (السّراة)، ومن ثم وانتقالها إلى العالم المدني المغاير لعالمها في جدة ثم الرياض، وثم شعورها بوجود هوّة من الانسجام عند ارتحالها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ويركز الكاتب على وصف تلك المراحل التي عانتها والدته بداية من الاغتراب إلى القدرة على التوازن ثم إلى الانتظار والاستقرار النفسي ومحاولتها إيجاد هويّة تُعينها على التوافق مع ثقافات مختلفة.
مع حرصه على أن تكون ذاكرة أمه هي الساردة لحكاياتها، مع بعض المداخلات الضرورية من قِبَله وحسب ما يقتضيه النسق السردي، كتدعيم للحكايات ببعض المعلومات التاريخية المتزامنة مع حقبتها، وهو تدوين وقائع وأحداث لها ارتباطها الوثيق بتأسيس المملكة وبشخصيات كان لها دورها المهم في ملحمة التأسيس كشخصية الشيخ عبدالرحمن السبيعي.
وكثيرا ما نستشف من خلال صوت الكاتب المقترن بصوت والدته؛ كيفية تكوين شخصيتها الحازمة والحنونة في آن واحد، وقدرتها على مُعاصرة عوالم متعددة مُلقية الضوء على أسباب التنقل والارتحال قديما والمعاناة الصعبة التي تلزمهم بأسلوب معيشي قاسٍ فرض عليهم الشعور بالفقد وعدم الاستقرار؛ فنرى جدة الكاتب (شاهرة والدة أمه سعاد) تُفجع وهي صغيرة بوفاة والدها في رحلته التجارية الشاقة إلى اليمن، وعلى نفس المنظومة الحزينة ينقلنا الكاتب إلى معاناة والدته التي فقدت والدها بعد عودته من رحلة الحج الطويلة وكأنما ألم الفقد يُورّث! حيث اجتاحت سعاد الأحزان كوالدتها فصُدمت بغربة المشاعر في إحدى محطات حياتها عندما اضطرت أمها إلى تركها وحيدة تُجابه ما خطّه القدر على جبينها، فيضعها في اختبار الحياة الصعب؛ لتأخذها الأقدار والضرورة المُلحة إلى (أمريكا) لتجابه مجتمعا مختلفا عنها بكل مفاهيمه وأفكاره، فكانت في رحلتها تلك كمن يتعلّق بقشّة الأمل في سنوات طويلة من الصبر، والترقب والشوق للبيت والوطن.
فتعود لموطنها لتعيش كأي أم تنعم مع أسرتها بحياة هانئة دونما منغصات مقلقة. لكن القدر يُسقطها في أعمق حالات الحزن بفقدها لشريك حياتها الشيخ عبد الرحمن العثيمين. فأصبحت بحاجة إلى عبارات المساواة بعدما كانت هي من تبث الطاقة الإيجابية في كل من حولها بكلماتها الحماسية والمتفائلة رغم ما مرّ بها من أوجاع. فكل ما واجهته اختبر مدى قدرتها على التوازن. هذه القدرة الفريدة من نوعها جعلتها تزداد تصميما على المضي قُدما بكل ما أوتيت من قوة رغم تلك الأسئلة الكثيرة المستمرة في دورة حياتها، لكنها تستكين وتصل إلى ذروة هدوئها، فتقول لولدها إبراهيم:
ــ يا بني لا إجابات شافية لها، فلم أحصل عليها قبلا ولن أحصل عليها الآن! لكنني مؤمنة بشيء واحد.. أن القدر هو مَن يحدد لنا طريقنا.
وبتلك الكلمات وغيرها تقدم وصاياها وخلاصة تجربتها للأجيال القادمة من أبناء وأحفاد.
وفي تتابع الفصول يؤكد لنا الكاتب الابن على هوية العائلة السعودية، وكذلك الروح الوطنية عند أفرادها، إضافة إلى مشاعره المناصرة لقضايا إخوته المسلمين عندما ينقل لنا على لسان والدته انضمام خال والدته (علي) إلى الجيش السعودية للمشاركة في حرب فلسطين عام 1948 استجابة لاستنفار الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- فعاد محملا بقصص الحرب والتضحيات.
ومن جوانب التفرد والجمال التي تميز بها الكاتب: ثقافته المتنوعة وحسه الواعي فمن خلال سرده لمذكرات والدته أطلعنا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في تلك الفترة، وأخذنا معه في رحلات والدته بأسلوب شيق وسلس من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى غربها فشمالها ثم أخرجنا من حدودها لنجدنا معه ومع والدته وإخوته في رحلتهم إلى أمريكا متابعين لأحداثهم بكل شوق واهتمام. وهو بين المدينة وتلك لا يتوقف عن وصف الحياة والبشر والحارات والشوارع، ويعرض لنا بمنتهى الأمانة والدقة مقارنات موضوعية بين الشرق والغرب، راسما صورا إنسانية صادقة حتى لنظن أنه عاش تلك الحقبة أو كان كبيرا بما فيه الكفاية لينقل لنا كل تفاصيلها بكل صدق وشفافية! ويعود بنا إلى طيات الزمن القديم بكل أصالته ونقائه من خلال برّه بوالدته وعشقه لجلسات الحديث المطولة معها التي لم تكن تخلو من حكايات زمان، أيام الخير والبركة، أيام الأخلاق الحميدة والأصول، أيام الاحترام وتقدير الجيران لبعضهم، وتظل تحكي وتحكي وهي بين الفرح والحزن، بين استشعار مرارة الحياة وحلاوتها، وهو في غاية إثارة المشاعر والاستمتاع كتب لنا تلك الديابيج ليُمتعنا بسيرة والدته... وللحكايات الشيقة بقية!
** **
- د . إبراهيم العثيمين