د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قبل أربعة آلاف عام، وفي النصف الثاني من القرن العشرين قبل الميلاد، ظهر لنا قائدٌ اسمه سنوهي، وهو أحد قادة الفرعون المسمى منحنتي، أو أمين - ام - حات، الذي تم اغتياله. وشعر هذا القائد متوسط الرتبة الفطن بأن الأمور لن تسير على ما يرام؛ لهذا هرب إلى الفرع الشرقي للدلتا، وهي منطقة النقب؛ ليعيش أحداثًا درامية كما يصورها لنا، وهي من أفضل المذكرات - إن لم تكن أفضلها - التي بقيت منحوتة، حتى وصلت إلينا؛ وتستحق أن تكون مادة لكتابة سيناريو لإنتاج فيلم يحكي قصة ذلك الرجل الذي وثَّق لنا بشكل واضح وجلي تاريخ مصر وفلسطين في ذلك الزمان. وكان المصريون يسمون فلسطين آنذاك بيلست، إلى أن غيّرها المؤرخ اليوناني هيروس إلى فلسطين.
يقول ذلك القائد الرائع المبالغ في مدح نفسه: هربت باتجاه الشرق نحو تحوم الدلتا، ثم مررت بالحصن الحدودي ليلاً، ووجدت نفسي وقد توغلت في سينا. واصلت رحلتي في غبش المساء، وعندما أطل الشعاع الأول للنهار كنت قد بلغت مكانًا يقال له بيتين، ومِلت كي أستريح على الأسود العظيم، واشتد بي العطش، وذبل جسمي وتشقق حلقي، فقلت في نفسي: هذا هو طعم الموت. ثم تمالكت نفسي، ولملمت أطرافي؛ فلقد وصل إلى أذني خوار المواشي، ولمحت على حدود النظر بعض الآسيويين، وتعرف عليّ شيخهم الذي كان قد سبق له زيارة مصر، وأخذت بالتنقل معه وعشيرته بعد أن أنقذتني ضربة حظ».
ثم يذكر أنه انتقل من بلد إلى آخر متجهًا نحو الشمال، وكان كل بلد يسلمه للآخر بفضل ذلك الشيخ، حتى وصل إلى بيبلوس بالقرب من بيروت، ثم قفل راجعًا، ومر بمدن مكث في إحداها عامًا ونصف العام، ويقول: «وسمع بي نينشي بن عامو حاكم رينيتو العليا، وطلبني وقال لي: لسوف تسعد بإقامتك معي، ولسوف تسمع أذناك لغة مصر. ولقد أبلغني ذلك لمعرفته بطبائعي، وكان قد سمع أني على درجة من البراعة، وكان المصريون الذين يقيمون معه قد أدلوا بشهاداتهم عني».
إن ذلك يدل على أن الصراع في مصر قد دفع ببعض المصريين إلى المنفى في شرق الدلتا، وهي فلسطين والنقب، وشكلوا جالية وثيقة العرى.
ويذكر أن نينشي بن عامو زوّجه ابنته الكبرى، وأسكنه في رقعة من الأرض تابعة للقبيلة، وهكذا عاش جزءًا من حياته كشيخ بدوي، وسرعان ما اكتسب الغنى والصيت، وصار معدودًا من أشهر الأغنياء، لكن ذلك الغنى والصيت قد جلبا له حُسّاد النعمة من البدو؛ فقَدِم أحد شيوخ القبائل من منطقة رينيتو كي يتحداه في خيمته، وكان مصارعًا وقواسًا بارزًا، وطلب منه المبارزة، حتى يتخلص منه، ويستولي على أغنامه، وماشيته. ويقول إن صديقه وصهره نينشي بن عامو طلبه لاجتماع به، وسأله إن كان يعرف الرجل أم أنه قد سمع عنه، لكنه أجابه بالنفي، وقال: لكنني قبلت المنازلة، وتدربت، وصقلت سلاحي، وحضر يوم المبارزة، واحتشد خلف البدوي نصف عشيرته.
ويقول: اقترب مني ذلك البطل بينما كنت واقفًا ومستعدًّا، فأطلق السهام، وأنا أتمايل عنها يمنة ويسرة، والنساء والأطفال يبكون خشية عليّ، ثم انطلق نحوي مهاجمًا، لكنني عاجلته بسهم من قوسي استقر في عنقه، فانكفأ على أنفه بعد أن صرخ صرخة مدوية، ثم أجهزتُ عليه، وأطلقت صيحة القتال، وركبت على ظهره، فبكى أعوانه الآسيويون فردًا فردًا، وحمدتُ إلهي على ذلك.
ويذكر لنا سنوهي أنه بعد حين حنَّ لمصر، واشتاق لرؤية الأرض والأصحاب؛ فأرسل رسله إلى معارفه القدامى في القصر؛ ليستشعروا عن رأي الفرعون به قبل القدوم، فجاءت إجابتهم بأن الفرعون لا يرى بأسًا في عودته؛ فلملم حوائجه، وطلب من عائلته الاستعداد للرحيل، ثم وصله خطابٌ من الفرعون سنوسرت الأول شخصيًّا يتضمن الموافقة على عودته؛ لأنه لم يرتكب إثمًا يدعو إلى الغفران.
عند الحدود وجد وفدًا في استقباله، وصعدوا به إلى حيث يكون قصر الفرعون، وأخذت الوساوس تداهمه؛ فربما تكون خدعة تنتهي به إلى السجن أو الإعدام. نام الليلة قبل اللقاء في القصر، وعند الفجر جاءه عشرة من رجال البلاط، وهو يرتعد خوفًا، وعندما مر بأبي الهول انحنى حتى كادت جبهته تلامس الأرض، وكان الأمراء الصغار يطلون عليه من الشرفات.
يقول سنوهي: «قادني رجال البلاط إلى القاعة الواسعة، ثم توجهوا بي حيث يجلس الملك، فوجدت جلالته جالسًا على العرش العظيم في المقصورة، وسرعان ما انبطحتُ على بطني إلا أن هذا الملك (يقول الإله لأنهم يؤلهون الفرعون) خاطبني بلطف، ثم أمر رجال البلاط بأن يرفعوني، ثم قال: لقد وصلت إلى هنا بعد رحلة طويلة، وهاجمتك الشيخوخة، ومثوى جثمانك ليس أمرًا سهلاً، وما كان للبدو أن يتولوا أمر دفنك. ثم أمر رجال البلاط بأن يدخلوا الملكة والأبناء، ثم قال: انظروا هذا هو سنوهي قد حضر. فصاحت الملكة يا إلهي إنه ليس سنوهي الذي نعرفه. ثم قال الفرعون: ليعُدْ سنوهي لخدمة الملكة مكرمًا معززًا».
الحقيقة إننا لا نعرف هل هذه القصة من صنع الخيال أم قد وقعت فعلاً، لكن المؤكد أنها تحفة أدبية رائعة، نُسجت من الخيال أو الواقع بأدب رفيع راقٍ قبل أربعة آلاف عام، وحفظت لنا تاريخًا لمصر، وعلاقتها مع فلسطين وسوريا.