د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لا ينسى يوم امتلاكه ساعةً حقيقيةً بعدما أمضى زمنًا يرسمُها على يده بالقلم الأزرق والأحمر؛ فقد مثَّلت له والصبيةِ في عمره قيمةً وجاهيةً جميلة، ولم تكن أكمامُ ثيابنا تغطي معاصمَنا قصدًا كي يُرى ما تسترُه، ويذكر أحدَنا - في الصف الثالث الابتدائي - وهو يقاطع المعلم ليحكيَ عن ساعته الجديدة وتحديد أنماطها وتفضيل «الليلية» التي تُضيء في العتمة، أما بقايا مكوناتها فتفاصيل غيرُ ذاتِ بال في مرحلة لم تعنِها فوارقُ الزمن وداخل وسط مجتمعي توقفت عقارب الساعة فيه عن الدوران، ولم يتبدل تنافسُ المعاصم حتى اليوم؛ فللمظاهر سطوةٌ تفوق خطوَنا الوئيد ورسومَنا المتعثرة.
** كان استفهامُ «كم الساعة» في ذلك الوقت مرادفًا لسؤال: «كيف الحال» لدى فضوليين شاؤُوا معرفة المارّين عبر أصواتِهم، وكان الرد باسم الشخص لا الوقت إرضاءً لبُلغة المتسائل، ومثَّلت الساعةُ - قبل نصف قرن - مؤشرًا على «مقاومة التغيير» عندما استُبدل بالتوقيت الغروبي التوقيتُ الزوالي فعبّرت الساعة الثانية عشرة عن الظهيرة لا الغروب فرفض فئامٌ التحول وسعى الوسطيُّون لامتلاك ساعة بتوقيتين.
** نحتاج إلى إيقاف ساعاتنا حينًا وأحيانًا إلى إيقاظها، وبين الإيقاف والإيقاظ عناءٌ واسترخاء، وفي الحالين لا تعود الساعةُ تدور ويصبح اليوم ذا شكل هلامي بليالٍ نهارية ونهاراتٍ ليلية وإفاقة نائمة ومنام مستيقظ وعوائق ذهنيةٍ وبدنية ليس الوقتُ منها؛ فاليوم ممتد والحياة تتجدد والأعمار محطاتُ صعود ونزول.
** تحولُ الساعة دون عزلة الزمان اللحظيّ لكنها لا تراعي عزلة الشعور والمكان، ويوقن أكثرنا أن العزلة الشعورية أقسى، أما عزلة الظرف والمكان فلا شأن لها بقياس أو إحساس؛ فكيف نقيس وقتًا فرَّ منا ماضيًا أو لم يبلغنا مستقبلاً؟ وهل نستطيع الإحساس بالوقت كما هو دون نسبية مشاعره؟
** يذكر أنه نسي هاتفه في منزله وذهب إلى أحد التزاماته فأيقن أن دقائق انتظاره ساعات وحجم ملله مسافات، ومن تجربته فقد أنجز في وقت أضعاف ما أنجزه في وقت مماثل، وألَّف كتابًا من ثلاث مئة صفحة فما احتاج إلى أكثرَ من بضعة أشهر منذ أن خطَّ السطرَ الأول حتى اصطفَّ على واجهات العرض، وعمل ست عشرة ساعةً في اليوم دون أن تتبعثر حركة الوقت، وفي المقابل فقد يمكث أيامًا ليكتب مثل هذا المقال القصير، وربما أرَّقه عملُ دقائق، واستعاد ما قاله الدكتور عبدالعزيز الخويطر عن سرِّ امتلاكِه وقتًا لكلّ شيء فقال إنه لا يلعب «البلوت»، وقد هجر صاحبكم «البلوت» منذ سنوات، غير أن هذا لم يكفِه.
** والمؤدَّى هو أن ما نعيشُه وقتًا هو «الآن» أو «اللحظة» فقط دون «ماضٍ» بات خلفنا و»آتٍ» لا نعلم بمَ يجيء؛ فكيف نكون دون الأمس وكيف نصير بجهل الغد وكيف نحن من غير أن نمتلك الإحساس والقياس؟
** نقفُ ويمضي الزمن.