(المرء لا يعيش إلا مرة واحدة) جملة أخذت من الشهرة حظًّا وافرًا؛ السبب أنها تصب بمعنى أدركناه جميعًا، دليله (من يعيد لنا العمر الذي ذهب..) وولى إلى غير رجعة. وعلى هذا فخذها من قاصرها: أن أي شخص يؤذي مشاعرك فاعتزله (مهما كان عزيزًا)..!
وكم دغدغت رغائبي ونازعتني إليها أهوائي جملة «قد تفقد أو يصرف عنك حب شخص.. فلا تتضايق، فقد يكون استجابة لدعوة» أكننتها أنت بيوم، فوجدت بابًا إلى بالسماء مفتوحًا: «واصرف عني شر ما قضيت».. فأعجبتني، ليس لأنها وافقت هوى في الفؤاد، واتفقت مع المراد! بل لأنها توجز لك: كم يتوافر لك أن تمضي الحياة بلا منغصات سوى لممًا؛ فقد ذُكر عن أحد (الخلفاء) أنه قام بحساب أيام السعادة في عموم حياته فوجدها لا تزيد على بضع عشر يومًا فقط! والحقيقة التي لا مراء فيها أن الأشخاص من حولنا هم في ثيابهم؛ فلا يعلمهم إلا ربهم، وقد تبلغ أطرافًا ممن تصل أقاصيه فتقصيه عن مسارك، لكن ليس مجابهة بل بذكاء.. المتنبي:
إِذا صَديقٌ نَكِرتُ جانِبَهُ
لَم تُعيِني في فِراقِهِ الحِيَلُ
ثم ردِّد دائمًا دعوة: »اللهم دلني لمن أراد بي خيرًا، واصرفني عمن أراد بي شرًّا».
لأقرّب لك: في حياتنا كثير من الأطعمة نحبها، لكن نؤثر هجرها لما تسبب لنا من أتعاب بالمعدة أو حموضة، أو غيرها.. أحدهم يقول لي «لقد هجرت زميلاً عليّ عزيزًا؛ لأنه -هداه الله- لديه موضوع محدد، لا بد إن التقينا أن يقوم بفتحه». وآخر يقول «اضطررت لقطع وصالي بعمي؛ لأنه دائمًا يلوك معي معاتبًا: لماذا طلقت أم أولادك؟ بخاصة إذا بلغه عن أحد أبنائي موضوع جذره من مخلفات الطلاق».
بل خذ جانبًا أبلغ: سمعت من صاحب لي يقول «تركت فلانًا؛ لأن حبابته مؤذية». وشرح لي: «إنه يتلطف لدرجة لا أستطيع مكافأة ذاتي.. لترتقي ربوة ما بلغه»! وهنا يتكادؤك وأنت تردد بمثله: يا من يعز علينا أن نفارقهم.. ولكن للضرورات حالات، ليس للمرء خيار فيها..!
لدرجة أن أحدهم حدثني بأنه أحيانًا لا يرد على اتصال صاحبه.. لما عنده من (اللطف) الذي لا يستطيع مجاراته عليه. فتذكرة في هذا اللطف بموضعين، الأول جليل: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}. والآخر جميل لـ»سلطان العاشقين»:
وتلطف واجري ذكري عندهم
علّهم ينظروا عطفا إليّ
أقول بهذا لمخافة نشوز من.. لكن، وكما دل النص النبوي: «رفقًا بالقوارير»، فكذلك رفقًا بنا يا ذوي القلوب الرهيفة؛ فنحن «عافسنا» الحياة، لدرجة أننا نسينا أن نكون من الرقة مثلكم!
وأحدهم أتى من جانبه الأثير: إن لفلان علينا يدًا لا نستطيع مكافأته عليها، لكن نسأل السميع العليم... ثم يذهب متمتمًا خلف دعاء عريض له. كما بالمناسبة كم من محبوب تتوارى منه خجلاً أنك قصرت بحقه، أو - وهذا أكبر - من له معك من المواقف ما يجعلك تختبئ في ثيابك.. ولو صادفته بمكان لغشيك من الخجل ما تحمل ذاتك حملاً ثقيلاً علّك توازي مكانته.
أملي بهذه، على علمي المسبق بأن طرق هذا الجانب ((غريب))، وربما البعض يظن أني أبالغ، وقد يقول قائل من بينهم: «هذه الأسطر لعلها حذلقة أكثر مما هي واقعية)! لكن من يجرب ويستقرئ سيبصرها أمامه رأي العين، فضلاً عمن يتمحص؛ لأني جمعت تقوقعها باستنطاقي لخلد أكثر من شخص. وهنا أثبت نصح ابن القيم: «لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية والعلوم النافعة والأعمال الصالحة». فركز على جملة «الفضائل الدينية..»؛ فهي - بإذن الله - التي ترتقي بسمتك بين الخلائق و... كمثال: من ينفر عن الناصح المشفق..! فهو عند المنصوح يذكره بمواضع ضعفه (التي لم يستطع دفع هواه عنها). وللتقريب تلفى ممن بُلي بالدخان من لا يقبل من أحد صرفًا ولا عدلاً فيه بالرغم من أنه يعلم مدى ضرره، وبلغ قناعته مما ستدلي له عنه من رأسه حتى أخمص قدميه. وأزيدكم في هذا (السحاء) مما تحاذره من بعض «كبار السن» لو نصحته حول شرب القهوة العربية، ما يكاد لولا الخجل أن يطردك من المجلس! فكيف لو تذكّره ببعض ما يجلب الإكثار منها من مضار؟ هو للعلم يعرفها أكثر منك أيها الناصح.
وللعلم أيضًا، معظم مَن جابه المصلحين، فضلاً عن الأنبياء، هم ممن لا يحبون من يضع أيديهم على مواضع آلامهم، أو تحديدًا أهواءهم. ولا عجب؛ فمن يحب أن توقظه من سبات رغائبه، بالذات.. الذي في سابع نومة (هنيئة) ليقوم من رخاء الأحلام إلى كبد دنيا العمل والأعباء.. التي هي على كاهله، ولن يقوم بها غيره، مهما تماهى به كسله! فالمسافر إن وقف بالطريق ليأخذ قيلولة لن يُطوى طريق سفره إن طال به المقام، أقصد المنام، ويدري أنه لا يحك ظهرك سوى ظفرك، وإن حكّه الناس.. أقصد حديث (وإن أفتاك الناس وأفتوك)؛ والدليل تجده بمن وقع بأمر وإن لم يكن مريجًا، أنه أكثر من يعرف مدى ما يلحقه من مأثم أو مغرم، للحديث (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس). ولاحظ «كرهت» فتلكم مشتقة من الفطرة التي تنبئك من داخلك أصَواب هذا أم غيره؟ لتدق عليك ناقوس ملامة نفسك قبل أن يقوم به من حولك. وقد قيل (العاقل خصيم نفسه)، وإليه طرّا تقويم اعوجاجها.
ولذلك والداك بل أهلك يلومونك «ما دون البلوغ» إن أخفقت في دراستك، أما ما بعد البلوغ ففي الغالب يدعونك ونفسك قصدًا أن تقوم بتلك المهمة؛ لعل وعسى توقظ منك (الهمة)؛ لتتدارك مستقبلك الذي عندئذ بدأت خطاه. فإياك أن تتخطاه إلى نجعة لا تحصد من ريعها سوى عض الأنامل على ما فرطت في جنب حياتك..
إشارة بها أختم: إياك (يالحبيب) أن تكون من الطرف الـ...! فهم الهمج الرعاع (الذين يكدرون الماء، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد؛ فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش لهم الغبراء) ابن القيم -رحمه الله-.