د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
كان رسولنا- صلى الله عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقاً كما أخرجه الترمذي في جامعه وصححه، قال ابن قدامة -رحمه الله-: (وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمزح، ولا يقول إلا حقاً، ومزاحه أن يوهم السامع بكلامه غير ما عناه، وهو التأويل، فقال لعجوز: «لا تدخل الجنة عجوز». يعني أن الله ينشئهن أبكاراً عرباً أتراباً.
وقال أنس: إن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، احملني. فقال رسول الله: «إنا حاملوك على ولد الناقة. قال: وما أصنع بولد الناقة؟ قال: وهل تلد الإبل إلا النوق؟». رواه أبو داود.
وقال لامرأة وقد ذكرت له زوجها: أهو الذي في عينه بياض فقالت: يا رسول الله، إنه لصحيح العين. وأراد النبي- صلى الله عليه وسلم- البياض الذي حول الحدق.
وقال لرجل احتضنه من ورائه: «من يشتري هذا العبد؟ فقال: يا رسول الله، تجدني إذا كاسدا. قال: لكنك عند الله لست بكاسد» وهذا كله من التأويل والمعاريض، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - حقا، فقال «لا أقول إلا حقا»).
وكان الصحابة رضي الله عنهم يتمازحون المزاح المباح، قيل لمحمد بن سيرين رحمه الله: هل كانوا يتمازحون؟ فقال: ما كانوا إلا كالناس. وجاء في سيرة محمد بن سيرين رحمه الله أنه كان مزَّاحاً.
مزح الشعبي يوماً فقيل له: يا أبا عمرو أتمزح؟! قال: إن لم يكن هذا متنا من الغم، كان محمد بن سيرين يدعب ويضحك حتى يسيل لعابه، فإذا أردته على شيء من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك.
وروى عبد الرزاق عن قتادة قال: سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: هل كان أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال.
وقال الخليل بن أحمد رحمه الله: الناس في سجن ما لم يتمازحوا.
وكل شيء يقدر بقدره، فالمزاح حلال قولاً كان أو فعلاً إلا إذا حوى كذبا أو ترويع مسلم أو سبب الضغائن وأورث الأحقاد، وقد قيل: لكل شيء بدء، وبدء العداوة المزاح.
مازح صديقك ما أحب مزاحا
وتوق منه في المزاح مزاحا
فلربما مزح الصديق بمزحة
كانت لباب عداوة مفتاحا
وقد حدث في هذا الزمان نوع من المزاح لم يأذن به الشرع، ولا يدل على عقل ومروءة من يفعله، ولا أدري إلى أي قاع سينتهي بعض شبابنا هداهم الله وأصلح بالهم جرَّاء فعل «مقالبٍ»! وإنتاج مشاهد، والتنافس عليها! وتصويرها ثم نشرها!!
فتجد أحمق تحت غطاء المزاح يخيف أخاه الصغير بما قد يذهب عقله، ثم تبصر مزَّاحاً أحمق يُفْزِع صديقه بما يسمى «الدمية المسكونة»!، وترى ثالثاً يمثل دور المجرم الذي يتبع غلاماً حدثاً؛ ليختبر المجتمع في غيرتهم في دفعه عن ذلك الأحمق الصغير الذي تواطأ معه... بل بلغ الأمر ببعضهم أن نال حمقه والديه! بفعل سخيف، وتمثيل قبيح، وجرٍّ لضَحِك المُشاهِد، في قائمة من الحمقى تطول...
ثم ينشرون أفعالهم على سمع العالم وبصره! بدعوى المزاح وإدخال السرور، ويشجعهم جهلة يطلبون المزيد من الفعل الشنيع! وأولئك يطلبون منهم إظهار الإعجاب بها!!
يا أصحاب تلك المقاطع والأفعال أفيقوا ! فإن الأمر جِد خطير، وما تفعلونه ليس مزاحاً مباحاً، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال أبو القاسم- صلى الله عليه وسلم-: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه».
قال النووي رحمه الله: (فيه تأكيد حرمة المسلم والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه وقوله- صلى الله عليه و سلم-: «وإن كان أخاه لأبيه وأمه» مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد سواء من يتهم فيه ومن لا يتهم، وسواء كان هذا هزلاً ولعباً أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال).
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يسيرون مع النبي- صلى الله عليه وسلم- فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً».
الله أكبر، نعم لا يحل لك أيها المسلم أن تروِّع أخاك، فضلاً أن تجاهر بتلك المعصية التي ارتكبتها من ترويعه، وتنشرها بين الناس.
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ومن أخذ عصا أخيه فليردها»، قال أبو عبيد رحمه الله في غريب الحديث: (يعني أن يأخذ شيئاً لا يريد سرقتَه، إنَّما يريدُ إدخالَ الغيظِ عليه، فهو لاعبٌ في مذهب السرقة، جادٌ في إدخال الأذى والروع عليه).
وقال ابن الملقن رحمه الله: (فليس هذا من المزاح المحمود المباح، فإنما يهيج الضغائن، ويعد من السباب والكذب، أو يتسلط به على ضرر رجل أو ماله، فليس من المزاح المحمود، ولا هو من جنس ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال صاحب فيض القدير: (ترويع المسلم حرام شديد التحريم).
وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: (لا يجوز للمسلم أن يُفْزِع أو يخيف أخاه المسلم، وإن كان مازحا كإشارته بالسلاح أو بحديدة أو أخذ متاعه لما فيه من إدخال الأذى والضرر عليه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وقال الشوكاني رحمه الله: (لا يجوز ترويع المسلم ولو بما صورته صورة المزح).
وقد عدَّ الهيتمي رحمه الله في كتابه الزواجر، والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتابه الكبائر: ترويعَ المسلم من كبائر الذنوب.
وليس من المزاح محاكاة أفعال الناس وأصواتهم على وجه الإضحاك والاستهزاء، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: «تحرم محاكاة الناس على وجه السخرية المضحكة، ويعزر فاعلها هو ومن يأمره بها؛ لأنه أذى».
فإياكم يا شبابنا والأفعال المشينة، والأعمال المحرمة، وارتقوا بأعمالكم وهممكم إلى العز، ونافسوا على المجد، وأقبلوا على النافع لكم في الدين والدنيا، فالمجتمع الإسلامي بحاجة إليكم، والمسلمون يتطلعون إلى عطائكم المثمر، والأمة على مثلكم تقوم، فلا تضيعوا أوقاتكم حرسكم الله في غير المفيد، ولا يمضي شبابكم في غير أمر حميد، فما أكثر النادم على ضياع عمره، فلا يدفعنكم البحث عن الشهرة، أو اللهث لإضحاك الناس أن ترتكبوا ما يضر بهم، أو يضركم من ذنوب تصل إلى الكبائر وأنتم لا تشعرون.
فانتبه أيها الشاب المبارك أن «تفت فؤادك الأيام فتّا»، فيضيع عمرك سبهللا، و»من ضيّع الحزم لم يظفر بحاجته».
حفظ الله على شبابنا أوقاتهم، وجعلهم نصراً لأمتهم، وعزاً لأوطانهم.
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء