د.فوزية أبو خالد
جرت مقاومة جائحة كورونا بعدة أشكال عملية إبداعية عبر العالم.
كانت هناك مقاومة شعبية اشتركتُ فيها شخصياً بكل اعتزاز وجرأة على مطلات النوافذ والشرفات التي كانت تنطلق بحناجر الأطفال والكبار من ناطحات السحاب والعمائر الصغيرة على حد سواء في منهاتن ملوحة بمختلف أعلام الدول المنصوبة على مبنى الأمم المتحدة بما فيها العلم السعودي لتنشد للمخاطرين بالعمل على الجبهة الطبية وحراس الحياة في مختلف مجالات الضرورة المعيشية كل مساء في تمام الساعة السابعة يومياً دون كلل لمدة ستة أشهر إلى الآن نشيد البطولة والأمل.
كانت هناك ضرورة حياتية لمواجهة جائحة كوفيد19 بعدة أشكال عملية سواء إبان قسوة الحجر أو بعد بدء محاولة العودة لمجرى الحياة الطبيعية بالكثير من الحيطة والحذر. فكان العمل عن بعد، التسوّق عن بعد، التعليم عن بعد، العلاج عن بعد، المؤتمرات والندوات عن بعد, الزيارات الأسرية وخصوصاً في الأعياد والمناسبات عن بعد. ومع أن الأمر يبدو بقليل من التأمل التساؤلي وكأن الجائحة جاءت كتدريب عالمي ضار وليس ضرورياً وحسب لمختلف الأجيال للدخول بشكل فردي ولكن جماعياً للعيش عن بعد, فإن دخول مقاومة الجائحة بالإبداع على خط مواز لمواجهتها على الخط العملي قد أنسن في رأيي وحشة العيش عن بعد. كانت هناك مقاومة الجائحة إبداعياً بالشعر وبالموسيقى وبالقراءات القصصية وباللقاءات الثقافية وبمعارض التشكيل الافتراضية وقد كنتُ في سلسلة مقالاتي إبان الحجر قد وقفتُ عند عدد من تلك التظاهرات الإبداعية التي اخترقت العزلة بالفن والأدب وكتبت عن عينة منها سواء في مطلاتها العالمية خاصة بأمريكا، حيث كان الكمين الذي صادف منتبذي به عند بدء الحجر أو في وطني، حيث ساهم عدد من الشغوفين والمشتغلين بالشأن الثقافي فيه بما فيها المنتدى الافتراضي، المقاومة بإكسير الشعر, الذي أقمته بمشاركة طيف مضيء من الشعراء والنقاد كجناح خفاق بين نيويورك والرياض مروراً بعدد واسع من المدن العربية بيروت المنامة باريس ميامي عمان نواكشوط الباحة الدار البيضاء وتونس وأبها. أما مفاجأة مقاومة الجائحة بالإبداع التي جاءت مفعمة بشهد الدهشة مربكة لمعتاد المهرجانات فقد كان مهرجان أفلام سعودية الذي خرج على كمين المكان وتجاسر في أقل من ستة أعوام على خرق الوحشة والفراغ للمرة الثانية.
* * *
كانت المرة الأولى التي تجلَّت فيها شجاعة مهرجان أفلام سعودية أدبية ووجدانية حين اجترحت مجموعة من صنَّاع الأفلام مع أخطر صانعي الأحلام الشاعر أحمد الملا وطيف متعدد من شباب وشابات الوطن الإقدام على تأسيس لأول مرة في التاريخ السعودي السياسي والاجتماعي والثقافي مهرجاناً لأفلام سعودية في الوقت الذي لم يكن قد قامت فيه من قبل لبنة واحدة ولا شق فيه طريق ولو ترابياً للبنية التحتية المعقدة التي تطلبها عادة صناعة حساسة وباهظة مثل صناعة السينما. ولأي منا ليعرف حجم المغامرة, في «اختراق الوحشة والفراغ»، أن يتخيل أنه في الوقت الذي لم يكن قد جرب المواطن السعودي الجلوس قط إلا خارج المملكة الجلوس في قاعة سينما ومشاهدة فيلم من صناعة الآخرين أن يجد المواطن والمواطنة نفسه فجأة يجلس, بأمان ودون أن يتلفت تحسباً، في صالة عرض سينمائي مهيأة صوتاً وصورة لمشاهدة فيلم من صناعة سعودية!
وقد بدا واضحًا في إطار هذا الواقع المحفوف بالحرمان من شيء اسمه ثقافة السينما بأن تجربة تأسيس مهرجان أول لأفلام سعودية، من ما قبل لحظة الكاميرا إلى مراحل مخاض مركبة.. فكرة وسيناريو ومكان وكادر وإضاءة وعتمة وموسيقى تصويرية وصمت وتمثيل وإخراج ومونتاج وإنتاج، ومن لحظة توفير صالة عرض سينمائي ومشاهدين وأفلام متنوعة إلى إيجاد حكام وحياكة سجادة حمراء وسبك أو صك سعفة ذهبية والبحث عن شراكات وإطلاق حناجر وألحان وأجنحة للتعبير عن انطلاقة مهرجان سنوي لأفلام سعودية ولمحاورتها ولتبيئها كصناعة وطنية، هي تجربة تأسيسية متحدية وغير مسبوقة بكل معنى الكلمة وحذافيرها.
دون أن أن يغفل ذلك العدد القليل الذي سبق عصره بالسبعينات والثمانينات إلى أن جاء مطلع الألفية بعدد قليل أيضاً من محاولات فردية تجرأت بحذر على أسلاك المحاذير الشائكة التي كانت سائدة ما قبل تأسيس مهرجان أفلام سعودية وإبانه, مع شراكاتها فيه ومنها تجارب المهندس المخرج عبدالله العياف وتجربة الكاتب المخرج محمود صباغ وتجارب أخرى على ندرتها.
* * *
أما المرة الثانية التي جرت فيها مقاومة الوحشة والفراغ بثقافة السينما فقد تمثَّلت في هذا الموسم بالمهرجان السادس لأفلام سعودية الذي أُقيم في عين عاصفة جائحة الكورونا وتنكيلاً بها (1-6 سبتمبر 2020). فإذا كانت المرة الأولى لمغامرة التأسيس السينمائي (2008) قد شكلت مقاومة لواقعنا الاجتماعي المتقشف إن لم يكن المعدم سينمائياً، فإن عدم تأجيل مهرجان الأفلام هذا العام رغم تعذّر إقامته بما جرت العادة على أرض مدينة الدمام بالمنطقة الشرقية, يشكِّل هذه المرة خرقاً للوحشة والفراغ العالمي وللتباعد البدني والاجتماعي الذي فرضته حالة الاستجابة الوقائية من وباء كورونا على جميع مجتمعات الأرض.
إن إصرار إدارة مهرجان أفلام سعودية وصنَّاع الأفلام والجمهور على إقامة المهرجان افتراضياً عبر البث الإلكتروني المباشر لعروض الأفلام والنشاطات الثقافية المصاحبة من الندوات وورش العمل، المقهى الثقافي (محمد السلمان)، اللقاءات مع المشاركين في صناعة الأفلام (عبدالمجيد الكناني)، النشرة اليومية (المشرف العام عبدالعزيز إسماعيل وعبدالوهاب العريض)، وعروض الكتب القيمة التي تمت طباعتها خصيصاً كمحور رئيسي من محاور توطين ثقافة السينما، قد شكَّل نقلة نوعية في موقع المهرجان وجمهوره, نقلة من مهرجان سنوي محلي يُقام بمدينة الدمام إلى منصة افتراضية يشاهدها العالم من مختلف منافذ التواصل الاجتماعي.
* * *
خمسة أيام من مشاهدة الأفلام مرت في لمح البصر تفاوتت مستويات الأفلام كصناعة سينمائية ولكن بقي في نفسي ولا بد في نفس كل متابع شغوف ذلك النوع من الوهج الذي يجوهره المزيد من أجنحة التجربة. مهرجان أفلام سعودية بأغلبية أعماله التي تتنمي لما يُسمى بالسينما المستقلة فتأتي بمبادرات ذاتية جسورة وبتمويل ذاتي محدود مستلهمة من المعاشي واليومي والبسيط والمهمش ومشغولة بروح الهواية وبتجريب الاحتراف وبأدوات العشق سيبقى رمزاً لإرادة الإبداع وإرادة الاستمرار للتحالف مع المستقبل.
ولعل مهرجان أفلام سعودية بشراكاته مع إيثار ومع هيئة الأفلام لوزارة الثقافة، بل ولعل عموم صناعة السينما تنال ما يشترطه عادة بناء الصناعات الإبداعية من حرية وأفق معرفي ودربة أكاديمية ودعم لوجستي على مستوى الأدوات وعموم البنية التحتية.
وأختم بتغريدة ما قبل أخيرة: صنع المشاركون أفلامهم على انفراد وفزنا جميعاً بفوز مهرجان أفلام سعودية الموسم السادس. نلتقي على قول صانع الأحلام وصحبه بعد قليل في المهرجان السابع العام القادم بدون كورونا وبدون تباعد اجتماعي -بإذن الله.
أما تجربتي الشخصية في المشاركة بفيلم شمس سلمى وقصة مغامرتي في الدخول لعالم السينما ولاقتحام الزمن الشبابي الرقمي بفيلم وثائقي شعري فهذا ما قد يكون موضوعاً لمقالي الأسبوع القادم - بمشيئة الله.