د. حسن بن فهد الهويمل
كشفت التقنية الحديثة سوءات المستور عليهم، فكانوا من المغضوب عليهم.
الكذب من الخصال الذميمة، يوم أن كان يقوله الرجل في وسطه، ثم تذروه الرياح، فكيف به حين يبلغ المرء بكذبه آفاق المعمورة.
مواقع التواصل، وقنوات الإعلام الحديث أعطت هذه الخصلة الذميمة آفاقاً واسعة، وتكفلت بنقل المفتريات، ليعم ضررها القاصي، والداني.
كان الكذب محصوراً على أفراد، وبين أفراد. أما اليوم فهناك دول، وأحزاب، وجماعات، ومذاهب، وطوائف، ومنظمات تتخذه وسيلة لتنفيذ أهوائها، وشهواتها.
وأصبح الكذب حرفة تنهض به الأمم، ليكون موازياً للسلاح.
إنه مادة (حرب نفسية) تمهد لحروب عسكرية.
لم يعد الكذب ظاهرة اجتماعية، يقوله الفرد بين لِداتِهِ في مجلس سمر، ثم ينفض جمعهم، ويموت في مكانه.
أخطر الكذب، الافتراء على الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا}.
وعلى رسوله، حتى قال صلى الله عليه وسلم :- (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وهو ما يمارسه الكفرة، والملحدون، وهؤلاء من الأفاكين الذين توعدهم الله بقوله: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم}.
والويل واد في جهنم، والأفاك هو الكذَّاب.
فهو أفاك في قوله، أثيم في فعله.
أخطر الكذب: ما كان في الدين، أو في السياسة.
لأن ذاك يضل الناس، وهذا يذلهم، ويخيفهم.
كل المواقع، والقنوات التي تعد بمئات الآلاف جُهزت، وأنفقت عليها المليارات، وجند لها البلغاء، وذوي الألسنة الحداد، لإفساد الحياة، وتضليل الناس، وهدم القيم، وتلويث الأخلاق، ونصر الأعداء.
وإفساد حياة الناس، وأخلاقهم.
وإذا كان جسم الإنسان بحاجة إلى مناعة ذاتية، تحفظه من الفيروسات، وسائر الأوبئة.
فإن فكر الإنسان، ووعيه بحاجة هي الأخرى إلى مناعة معرفية، وولاء صادق يحولان بينه، وبين الوقوع في شراك الأعداء.
الإعلام اليوم أحد وسائل التدمير الشامل، يدمر العقائد، والأخلاق، ويصدِّع تلاحم الأمة، ويشتت شملها، ويوردها موارد الهلكة.
الحديث بكل ما تسمع نوع من الكذب، فكيف بالافتراء، ففي الصحيح: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع).
وحرب الشائعات، لا يمدها بالغي إلا الكذب، وهي حرب مضرة، لا يخلو منها زمان، ولا مكان.
ولا يسلم منها أحد.
حتى الرسل حوربوا بالشائعات.
و(حديث الإفك) أقوى شاهد.
لقد دبره (المنافقون)، وأوذي به الرسول، وأم المؤمنين، ولم يكشف الغمة إلا الذكر الحكيم، حين نزل على الرسول، وكشف كذب المنافقين.
من أشاع الإفك من الصحابة الذين أقام الرسول عليهم حد القذف ثلاثة.
منهم شاعر الرسول (حسان بن ثابت) رضي الله عنه، ولما قال في حق أم المؤمنين بعد ندمه:
(حَصَانُ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيْبَةٍ...
وتُصْبِحُ غَرْثَى مِنَ لُحُومِ الغَوَافِلِ)
قالت عائشة له: ولكنك لم تصبح أغرثاً, كناية عن أكل لحوم البشر بالغيبة، والنميمة، وكلها من مفردات الكذب.
الإعلام الحديث بكل إمكانياته المذهلة، استدبر الصدق، ونظر إلى المصالح، بعيداً عن أخلاقيات التعامل الشريف.
واجب المقتدرين العقلاء، العارفين، المجربين تكريس أخلاقيات الإسلام، نسعى لمصالحنا - وهذا حق مشروع - ولكن بأسلوب مهذب بعيد عن الافتراء.
المنافقون هم مصدر الكذب، ولا يخلو منه مجتمع: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}.
ولهذا كشف الله خباياهم، وحذر منهم: {وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون}.
وماذا بعد شهادة الله على كذبهم، وما أكثر منافقي العصر، وما أقدرهم على التلوّن الحرباوي.
السماعون يعتمدون على كلمة (زعموا) وهي كما يقول (ابن عمر): زاملة الكذب.
الإسلام حث على التثبت، والتبين، بل أوجبه خشية الوقوع في حبائل المفترين، وخشية إصابة قوم بجهالة، والقوم هم الجماعة الذين يقومون بالمهمات، ولم يقل تصيبوا رجلاً بجهالة.
فالكذب يتعدى ضرره لأقوام، وليس لأفراد.
يقول النووي: (وإجماع الأمة منعقد على تحريمه).
في (الأذكار) ص 377 للنووي، و(الإحياء) ص137-3 للغزالي كلام جميل، ومفصل عن (الكذب المباح) في الحرب، والإصلاح، وبين الزوجين، وفي زمن الظلم، والتعدي على الحرمات.
نسأل الله السلامة منه، ومن مُسَوِّغاته.