د.عبدالله بن موسى الطاير
مئة عام كافية لإثبات أن المسار كان خاطئا، ويبرر البحث عن طريق أخرى قد تقود إلى حال أفضل في الشرق الأوسط. منذ الحرب العالمية الأولى تفلت العرب من قبضة الدولة العثمانية ليتساقطوا في أحضان الفرنسيين أو البريطانيين.
الدول التي تولت أمرها فرنسا أو بريطانيا ظلت متخلفة تنمويا وتنهشها النزاعات نتيجة عدم الاستقرار ذلك لأن الدولتين الاستعماريتين خرجتا شكلا وبقيتا مضمونا تتحكمان في النخب الحاكمة محولة تلك الدول حدائق خلفية لمصالحها وأتباع لإرادتها. كان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- محقا عندما رفض أن يسمح لأية دولة ذات سابقة استعمارية أن تشارك بلاده في التنقيب عن النفط، وآثر عليها أمريكا.
فقد تسلمت أمريكا مصير أوروبا بعد الحرب الثانية، وأوروبا الآن بالمجمل في دائرة العالم الصناعي الأول، وكذلك الحال مع اليابان وكوريا الشمالية. تلك الدول استقلت عن المستعمر أو خرجت مهلهلة من الحرب العالمية الثانية، وتمكنت أمريكا من انتشالها ووضعها على الطرق الصحيحة. هناك أسباب كثيرة للنجاح الأمريكي في هذه المهمة ومنها عدم وجود تجربة استعمارية. فهل المشكل في العرب؟ أو في المستعمر، أو فيهما معا؟
أشعار نزار قباني السياسية، وأحمد مطر ومحمود درويش التي قيلت قبل عقود من الزمن لا زالت تطرب حتى اليوم... جلد للذات، وتكريس للتخلف، ولا زال المثقف العربي أسيرا في شرنقة السوداوية والبكاء على الأطلال من الأندلس إلى القدس. هكذا تشكل الوعي العربي بالشعارات والخطب دون وجود مشروع حقيقي يمكن أن يحسن من حياة الناس.
لا توجد قصيدة تقريبا تقيأها شاعر بعثي يساري إلا وعرّض بالمملكة وعلاقتها بأمريكا، وامتدح في المقابل دمشق وبغداد والقاهرة (ما قبل السادات). المملكة أخذت الخيار الصواب فاصطفت مع أمريكا في علاقة الرابحين، فكسبت التنمية والاستقرار السياسي. سيقول أحدهم بأن الفضل للنفط، فليكن ذلك، لكن النفط وحده بدون إدارة لا يحقق شيئا ولنا في العراق وليبيا مثالان واضحان.
بدأت متلازمة التخلف في الدول الناطقة بالعربية بتأسيس حزب البعث عام 1943 على يد ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار. لم تسلم من داء البعث دولة؛ إما كحركة معلنة أو سرية، وأصبح الحزب لاحقا هو الحاكم في سوريا والعراق وسيفا مسلطا على رقاب الحكام العرب. ويدعو البعث إلى تشكيل «أمة عربية اشتراكية واحدة»، فخلب بذلك مخيل الشعراء والمفكرين والمبدعين العرب، وتحول من حركة سياسية إلى حركة فكرية مكنت له في العقول العربية والوجدان الشعبي.
اعتنق حزب البعث عدم الانحياز ومعارضة الإمبريالية (أمريكا) والاستعمار (المعسكر الرأسمالي)، وكون هيكلا شديد المركزية والسلطوية، وبرع في العمل السري وتشكيل المليشيات التي أقضت مضاجع مناوئيه، وبخاصة الدول الخليجية حيث تم خطف الطائرات والمسؤولين وتحريك حركات التمرد وتغذية الانشقاقات، وتسريبات خيمة القذافي شاهد أمين على حجم المؤامرة.
بوفاة عبدالناصر ثبتت خيبة الأمل في «عدم قدرة العروبة على تحقيق الرخاء الدائم في العالم العربي»، فظهر الإسلام السياسي كبديل يقتنص الفرصة بشعارات إسلامية خلابة مثل «الإسلام هو الحل»، وعلى عكس الفكر البعثي القومي لم يجد الإسلام السياسي سبيله إلى عقول الناس ووجدانهم عبر الإعلام، لأن الفكر العربي والإعلام كانا بيد البعثيين والقوميين العرب الذين التفوا حول حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي، وما زالت فروخ البعث العربي الاشتراكي تدير مفاصل الإعلام العربي حتى اللحظة يتناقل إيمانها الجيل بعد الآخر، وكذلك يمارس أرباب الإسلام السياسي التقية بانتظار الفرصة.
سبعون عاما من إعادة تدوير التخلف كافية، وقد آن الأوان للانعتاق من ربقة البعث العربي الاشتراكي، والإسلام السياسي بإعادة بناء العلاقات الدولية على أساس المصالح. وجهة نظر جديرة بأن تأخذ حقها في التطبيق، ولكن علينا كدول ناطقة بالعربية أن نضع في الحسبان أربع كيانات متربصة وهي إيران، تركيا، إسرائيل وإثيوبيا. اللعب معها أو عليها يتطلب حذرا شديدا لأنها قد تجهض أية محاولة نهضوية جديدة كما فعلت من قبل قوى الاستعمار في هذه المنطقة. الذي أراه يتشكل أن علاقات دول الخليج ستبنى على أساس المصالح وليس المشاعر، وأن المنافع المتبادلة قد تقود بقية الدول العربية نحو فرص أفضل، حتى وإن كانت غير مأمونة تماما، فالمخاطرة هي التي تحدث التغيير وليس الاستسلام للرتابة.