رمضان جريدي العنزي
ترفة فتاة نشأت يتيمة، لم تعرف السعادة والحب والفرح قط، عاشت في كنف عمها وزوجته اللذين يعاملانها بقسوة واحتقار وفظاظة، ملابسها رثة، وحاجياتها غير متوفرة، وطلباتها مرفوضة، وصوتها غير مسموع، وأنينها لا صدى له، كانت ترى توزيع عمها للمصروف المدرسي على بناته، وتوديعه لهن، ورقته لهن، كأنه الغصة في الحلق، والشوكة في القدم، يجلب لنفسها الحزن والمرارة والأسى، بنات عمها ينعمن بحقائب وملابس جديدة، ويتمتعن بأحسن معاملة، ولهن ما يردن، تخرجت ترفة من الابتدائية وهي تحمل نفس الحقيبة، وغرزات الخياطة بائنة على جوانبها من أثر القدم، كانت زوجة عمها تعاملها كخادمة، تجعلها تعمل في البيت ليل نهار دون هوادة، ومع ذلك لم تسلم من الأذية، وفي آخر الليل عندما تأوي إلى فراشها تبكي بكاء مرا حتى يجف الدمع، في الصباح تطل من نافذة غرفتها الصغيرة لتسمع صوت العصافير، وحفيف الشجر، لتأنس بهما، صارت ترفة ذات الربيع الخامس عشر من عمرها، تخرجت من المتوسطة رغم الظروف القاسية، دائما تتخيل أمها وأبيها وترسل لهما رسائل لا عنوان لها، كان طموحها كبيرا بأن تصبح طبيبة، لكنها لا تعرف ماذا سيحدث لها في قابل الأيام، فقد كانت صابرة وتعاني من الحزن والوحدة والإهمال الذي تحمله داخل قلبها الصغير، ثمة زيادة في الأسى عندها، شخصيتها تتميز بالخجل والعفاف والرقة، ومع ذلك كانت لطيفة مع الكل، وخاصة مع عمها القاسي، إن مرض تجلس بجواره وتمنحه الدواء وتطبطب على كتفه لترفع عن كاهله التعب والبلاء، وهو الذي يعاملها بقسوة، وبعد سنوات تخرجت ترفة من كلية الطب وتخصصت أمراض نساء بتفوق وتميز، دارت الأيام وأصابت أسرة عمها لعنة التعامل الفظ والقاسي مع هذه الفتاة اليتيمة، أصبحت زوجة العم مريضة بمرض عضال، وكذا العم لم يعد يرى جيدا من أثر السكري والضغط الحاد وتوقف الكلى، وبنات عمها هن الأخريات لم يوفقن في الدراسة والعمل بسبب الدلال الزائد، عملت ترفة في أحد المستشفيات الحكومية، واستقطبها عدد من المستشفيات الأهلية لتفردها في تخصصها، كونت ثروة، اشترت بيتا، ووفقها الله بزوج صالح يقدرها ويحترمها ويحبها ويعوضها عن سنين الحزن والأسى والحرمان، ولأنها إنسانة تحمل مشاعر جياشة، لم تنسى عمها وزوجته وبناته، حرصت على زيارتهم وتفقدهم والاعتناء بهم وتوفير متطلباتهم، بل أنها سعت في توظيف بنات عمها، وساعدتهم في الزواج للانطلاق في الحياة من جديد، إنها ترفة الفتاة ايتيمة التي تحولت بسبب الطموح والصبر والثبات وقوة الإيمان بالله والقلب السليم إلى فتاة مغايرة، لم تحقد على عمها ولا على أسرته الذين أذاقوها مرارة اللفظ والتعامل والازدراء، بل قابلت الإساءة بالإحسان، والتنمر بالصبر والهدوء، والمعاناة بالتضرع واللجوء إلى الله، متمثلة بقول الحق جل في علاه {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، إنها الإنسانية أعلى رتبة من رتب الحياة، سيما أن جاءت وفق عمل، لا شعار، وأن ضاعت هذه الإنسانية، فلا داعي للحياة، إنها ترفة الإنسانة قبل أن تكون يتيمة، أعطت أسرة الجحود والنكران دروسا حقيقية في الوفاء والإيمان والثبات.
** **
ramadanalanezi@hotmail.com
@ramadanjready