عبدالرحمن الحبيب
تتذكر جدتي هولدا الرائحة التي لا توصف للنهر الجليدي. قالت: «عندما تصل إلى فاتناجوكول، يختفي كل شيء؛ وتنسى كل شيء. اتساع لا نهائي. حلم مطلق». العام الماضي، تم الكشف عن لوحة استثنائية في بورغارفيوردور غرب آيسلندا، لإحياء ذكرى أوكجوكول، أول نهر جليدي في البلاد فُقد بالكامل بسبب تغير المناخ. وقد أعلن أوكجوكول «ميتًا» عام 2014، عندما لم يعد سميكًا بما يكفي للتدفق عبر المناظر الطبيعية، كما كان حاله لعدة قرون.
كُتب على إطار اللوحة «رسالة إلى المستقبل» باللغتين الآيسلندية والإنجليزية: «من المتوقع أن تتبع جميع أنهارنا الجليدية نفس المسار خلال الـ200 عام القادمة. هذا النصب هو الاعتراف بأننا نعرف ما يحدث وما يجب القيام به. أنت فقط تعرف إذا فعلنا ذلك». وفي أسفل النصب التذكاري كتب: «بالصيف الماضي، تم قياس ثاني أكسيد الكربون بالغلاف الجوي عند 415 جزءًا بالمليون، وهو أعلى من أي وقت مضى منذ أن عاش البشر على الأرض». أعقبها انتشار الخبر عالمياً وشارك به الملايين (إيكونيميست).
هذا ما ذكره الكاتب الآيسلندي أندري ماجناسون بكتابه On Time and Water (في الوقت والماء)، الذي صدر هذا الشهر. الكتاب يتداخل فيه الذاتي مع الموضوعي: المذكرات الشخصية والتأملات والطرح العلمي ليوضح كيف يُلحق النشاط البشري الضرر بالكوكب. المؤلف من أشهر الكتاب الآيسلنديين، وسبق أن ترشح لمنصب رئيس آيسلندا عام 2016 وجاء بالمركز الثالث من بين تسعة مرشحين.
«الوقت» في العنوان وداخل الكتاب يهدف لإعطاء القراء إحساسًا مناسبًا بالزمن الجيولوجي.. عدم تقديرنا للوقت هو المشكلة الأساسية؛ لأن تغير المناخ يتم بحركة تبدو بطيئة بمقياس الزمن البشري، لكن تلك التغييرات عالية السرعة بشكل كارثي بمقياس الزمن الجيولوجي.. وهذا «البطء» أسرع بكثير مما يبدو أن الكثير من الناس قادرون على استيعابه. حتى بالزمن البشري ستتغير الحياة، بما في ذلك ارتفاع مياه العالم، بشكل لا رجعة فيه في إطار زمني مألوف: «كل هذا سيحدث خلال حياة الطفل الذي يولد اليوم ويعيش ليكون في عمر جدتي 95 سنة».
«الماء» في الكتاب يمثل التحول «الأسطوري» كما يسميه المؤلف، ففي المائة عام القادمة، ستخضع طبيعة الماء على الأرض لتغيير جوهري. ستذوب الأنهار الجليدية، وسيرتفع مستوى سطح البحر، وستتغير حموضتها أكثر مما كانت عليه بالثلاثين مليون سنة الماضية. ستؤثر هذه التغييرات في كل أشكال الحياة على الأرض، وكل من نعرفه، وكل من نحبه. إنه أكثر تعقيدًا مما يمكن للعقل أن يستوعبه، وأعظم من كل تجاربنا السابقة، وأكبر من اللغة. ويتساءل المؤلف بحسرة: ما هي الكلمات التي يمكنها استيعاب قضية بهذا الحجم؟ كمية ثاني أكسيد الكربون بالغلاف الجوي للأرض ارتفعت بسرعة مذهلة. في بداية الثورة الصناعية، كانت النسبة نحو 280 جزءًا بالمليون. بحلول عام 1958 بلغ 315 جزءًا بالمليون. إنه الآن يرتفع بنحو جزأين إلى ثلاثة أجزاء بالمليون كل عام.
يذكر المؤلف أن أنماط المطر والثلج ستتغير بشكل كبير بمعظم المناطق. يمكننا القول إن الطبيعة انتقلت من التغير بالسرعة الجيولوجية إلى التغير بالسرعة البشرية. هذا التحول المتطرف أكبر من أي استعارة أو أي كلمات أو لغة اعتدنا عليها، تمامًا مثل الجاذبية الهائلة للثقب الأسود تجعله غير مرئي، يمكنك القول إن المشكلات التي نواجهها كبيرة جدًا لدرجة أنها تبتلع كل الكلمات و المعاني. نسمع كلمات مثل «تغير المناخ» ولكن بالنسبة لمعظم الناس، هذه مجرد ضوضاء بيضاء، 99 % من المعنى الحقيقي غير مدرج في خيالنا.
ينسج أندري شبكة من القصص والأساطير، إلى أبحاث التماسيح بالأمازون، إلى شهر عسل جدته في أكبر نهر جليدي بأوروبا، لكي نفهم أوقاتنا الحميمية. نحن نواجه مهمة شبه مستحيلة تتمثل بخفض انبعاثات الكربون إلى الصفر في عام 2050 وفقًا لأحدث الدراسات. السؤال المحرج المقلق الذي يطرحه المؤلف، هو: هل فات الأوان لفعل شيء ما؟ ما الذي يمكن فعله واقعياً خلال 30 عامًا؟ هذا لا يتطلب أقل من ثورة علمية جديدة، ومشاريع ضخمة جداً، ونماذج جديدة ونهج جديد لكل شيء تقريبًا تم إنجازه بالقرن العشرين.
آخر الأخبار تقول إنه لم يعد بإمكان السقوط الثلجي السنوي تجديد الجليد الذائب الذي يتدفق إلى المحيط من الأنهار الجليدية في جرينلاند، حسب تحليل جديد لبيانات الأقمار الصناعية لما يقرب من 40 عامًا بواسطة باحثين بجامعة ولاية أوهايو. ويعتقدون أن فقدان الجليد الآن كبير جدًا لدرجة أنه وصل لمرحلة لا رجعة فيها: سيستمر اللوح الثلجي بالذوبان، حتى لو تم تقليص جميع انبعاثات الاحتباس الحراري بأعجوبة. هذه أخبار سيئة للمدن الساحلية، بالنظر إلى أن جرينلاند تفتخر بأكبر طبقة جليدية على هذا الكوكب بعد القارة القطبية الجنوبية. منذ عام 2000، أسهم ذوبان الجليد في ارتفاع مستوى سطح البحر بنحو ملليمتر واحد بالسنة. سيؤدي فقدان الغطاء الجليدي بأكمله إلى رفعها بأكثر من سبعة أمتار، وهو ما يكفي لإعادة تشكيل أغلبية السواحل في العالم. يقول إيان هوار أحد باحثي الدراسة: «ستكون غرينلاند طائر الكناري في منجم الفحم.. والكناري ميت إلى حد كبير في هذه المرحلة».