محمد سليمان العنقري
التعليم ركيزة تتنافس كل الدول الباحثة عن التنمية المستدامة في تطويره وانتشاره؛ فهو الأساس في التنمية للمجتمعات، ولم يختلف هذا القطاع المهم عن غيره في تعرُّضه لتأثيرات جائحة كورونا. وقد سارعت دول عديدة لإقفال المدارس والجامعات في الفصل الدراسي الثاني من العام الماضي لمواجهة عنصر المفاجأة في تفشي الفيروس القاتل، لكن مع بداية هذا العام الجديد تعاملت الدول بطرق مختلفة؛ فكثير منهم فضّل العودة لحضور الطلاب بالمدارس، وبعض الدول ما زالت تتريث، وقليل أخذ المبادرة بأن يكون التعليم عن بُعد بشكل تدريجي، أي كل أسابيع عدة يعاد تقييم الوضع العام الصحي ليتم اتخاذ القرار المناسب، سواء بالاستمرار بالتعليم عن بعد أو العودة للحضور للمدارس. ومن بين التجارب التي توضح خطورة فتح المدارس والعودة للتعليم بسياقه الطبيعي ما حدث في فرنسا التي اضطرت لإقفال 22 مدرسة ظهرت فيها إصابات بكورونا، وكذلك حدث في دولة الإمارات؛ وهو ما يوضح أن هناك صعوبة بالغة بعودة التعليم للسياق الطبيعي المتعارف عليه؛ فالصحة العامة مقدمة على أي اعتبار آخر.
وفي المملكة كان القرار أن يبدأ العام الدراسي بالتعليم عن بعد لمدة سبعة أسابيع، يُعاد خلالها في كل فترة التقييم للحالة الصحية لاتخاذ القرار المناسب الذي يحقق المصلحة العامة، لكن هل التعليم عن بعد يحقق الهدف الأساسي باستمرار العملية التعليمية بشكل طبيعي؟ الجواب هو لا بكل تأكيد، لكنه حل استثنائي، يتماشى مع ظرف الجائحة، ويعوض جزءًا من التعليم الحضوري وفق الآليات التي أعلنتها وزارة التعليم؛ فالكثير متفق على أنه مجرد حل، وليس بديلاً للتعليم الحضوري؛ فالتعليم عن بعد موجود عالميًّا بمستويات محدودة، وارتبط بالتعليم الجامعي لبعض الجامعات، أي لا يوجد انتشار واسع له، أما في التعليم العام فهو غير موجود، وإذا وُجدت بعض التجارب فهي أيضًا محدودة للغاية، لا يمكن الاعتماد عليها للمقارنة. فتفهم المجتمع بأن هذا النوع من التعليم ليس إلا حلاً مؤقتًا، فرضته الضرورة، يساعد على تحقيق أفضل النتائج الممكنة منه.
فلا يمكن أن ينتقل الطلاب والمدرسون والإداريون للانسجام مع هذا الحل بسهولة؛ لذلك وفرت الدولة من خلال وزارة التعليم والجهات ذات العلاقة كل الإمكانيات لتسهيل هذه المهمة الشاقة؛ فقد أسست مدرسة افتراضية لتقديم الدروس من خلالها، ووظفت 23 قناة تلفزيونية لبث دروس المناهج كافة للصفوف الدراسية، وهناك منصة مدرستي التي يمكن للطلاب التواصل من خلالها مع المدرسة، وتحاكي واقع حضور طلاب بالمدارس، إضافة إلى أنه بكل الأوقات يمكن التنسيق مع المدرسة ليقوم الطالب بزيارة، يلتقي فيها مدرسيه، ويأخذ منهم الواجبات، ويسلم ما كُلف به، وذلك بمعدل كل أسبوع مرة، أي إن الاحتمالات والخيارات أُخذت بعين الاعتبار لمواجهة تحديات التعليم عن بعد؛ وهو ما يجعله تجربة فريدة للمملكة عالميًّا، وخصوصًا أنه أُنجز في ظرف مدة قصيرة نسبيًّا خلال العطلة الصيفية. أما لماذا أُخذ هذا الخيار فبالتأكيد بسبب الحفاظ على صحة المجتمع، وعدم تفشي فيروس كورونا، وتبعات ذلك الخطيرة. وسيقول البعض: لماذا لم تؤجل الدراسة لحين ظهور لقاح يحد من تفشي الوباء؟ وهنا لا بد أن ننظر إلى أن اللقاح لا أحد يعلم متى سيكون جاهزًا فعليًّا بغض النظر عما نسمعه من تقارير تصدر عن دول وشركات أنها اقتربت من صناعته، فلا بد أن يكون مستوفيًا الاشتراطات الصحية العالمية المعروفة؛ ولذلك من المستحيل رهن بداية العام الدراسي بإنتاج اللقاح؛ لأن الوقت مفتوح. هذا بخلاف الوقت الذي يحتاج إليه لتوزيعه دوليًّا، وإعطائه للناس. فكل ذلك سيأخذ وقتًا لن يكون قريبًا؛ لذلك كل الدول تقريبًا عادت للدراسة بالمواعيد التي تتبعها سنويًّا؛ لأن لديها النظرة نفسها بأن النور في النفق لم يظهر بعد؛ لذلك لا يمكن تأجيل الدراسة. وحتى ينضبط العمر الزمني للطلاب بحياتهم الدراسية كان لا بد من العودة للدراسة بتوقيتها، إنما أُخذ الخيار الأكثر سلامة وأمانًا للمجتمع رغم تكلفته المادية والمعنوية الكبيرة. فبالنسبة للوزارة وللمدارس والجامعات والمعاهد الحضور أسهل عليهم، وأكثر تحقيقًا لأهداف العملية التعليمية، لكن الضرورة فرضت نفسها للاتجاه نحو التعليم عن بُعد
الوصول لأهداف العملية التعليمية في هذا العام يتطلب تفهمًا من أطراف المجتمع كافة؛ فكل الأسر تقريبًا لها علاقة بالتعليم، سواء أبناؤهم أو بناتهم الطلاب، أو أن يكونوا هم من أعضاء هيئة التعليم؛ ولذلك فإن الأدوار مع التعليم عن بعد تغيرت؛ ليصبح دور الأهالي مهمًّا في مراقبة ومتابعة أبنائهم كما كان يقوم بذلك المعلمون في الفصول، وحتى التواصل والإشراف من المدرسة وكادرها التعليمي والإداري أصبحا أكثر صعوبة، ويتطلبان جهدًا مختلفًا لتحقيق النتائج المرجوة. والدور على الطلاب كبير أيضًا بضرورة التزامهم بما يصلهم من تكليفات، وكذلك مضاعفة الجهد لتعويض الفاقد من التعليم الحضوري. فنجاح التعليم عن بعد مسؤولية الجميع على أساس الشراكة والتكاتف بين كل الأطراف لتحقيق مصلحة الوطن باستمرار بناء الأجيال لدعم حاضر ومستقبل المملكة علميًّا وتنمويًّا.