الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
أوصانا الإسلام بصلة الأرحام فقطعناها، ولاشك أن لهذا الأمر خطورة على الأسرة والمجتمع، وتقع المسؤولية الكبرى على الآباء والأمهات في ترسيخ صلة الرحم عند الأبناء منذ الصغر، وبالذات في هذا الزمن الذي يشهد متغيرات متسارعة في الحياة.. «الجزيرة «ناقشت القضية مع عدد من الأكاديميات الشرعيات، وكانت رؤاهم التالية:
ذوو القربى
بداية تقول الدكتورة ابتسام بنت بدر الجابري أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم بجامعة أم القرى: لقد أكد الله -عز وجل- على حقوق ذوي القربى في القرآن الكريم في آيات عديدة بألفاظ شتى، فتارة يذكرهم بلفظ ذي القربى، وتارة بلفظ الأقربون، وتارة أولو القربى، وتارة أخرى الأرحام، وحينا يعدّد أصنافهم، فذاك الجد والعم والخال، والجدة والخالة والعمة وبنات الأخ وبنات الأخت، ومن ذلك قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، وكذا أكدت السنة على هذه الحقوق لذوي القربى فجعلت الصدقة عليهم أولى من غيرهم في حال حاجتهم، ويكفي في ذلك عندما أرشد النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الصحابي الجليل كما جاء عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس فلما أنزلت هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله إن اللَّهَ تبارك وتعَالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدق لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) صحيح البخاري2/ 1، بل وأكثر من ذاك، فحين يسيء أولوا القربى إليك لا ينبغي منك الإساءة؛ بل الإحسان والصلة، ففي (حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، (4/ 1982)، برقم: (2558).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه لا يدخل الجنة قاطع أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، (4/ 1981)، برقم: (2556). وقد ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الصلة والبر بكثير من الصور والمعاني فقد أوصانا بصلة الأرحام فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أنس رضي الله عنه: (مَن أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليَصل رحِمه) متفق عليه، ورتب على هذه الصلة سعة الرزق وبركة العمر.
ونحن اليوم في واقعنا نعيش متغيرات كثيرة نأت ببعضنا عن بعض، خاصة بعض الشباب الذي قد لا يطيق مفارقة جواله أو آيباده، ولو كان لبعض الوقت في حضرة جده أو جدته فلا يُحسن الصلة ولا التحية ولا الحديث بل قد لا يأبه بها، وجلَّ همّ بعضهم صغاراً وكباراً هي تلك القنوات التي هي اسمها قنوات تواصل لكن لم يُحسن بعضنا استعمالها فأصبحت في الحقيقة قنوات تباعد في حقهم عن ذوي القربى لا تواصل، وينبغي علينا جميعاً الالتفات نحو ذوي القربى والإحسان إليهم امتثالاً لأمر الله تعالى واتباعاً لسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
مقصد شرعي
وتؤكد الدكتورة سارة بنت متلع القحطاني أستاذ الفقه وأصوله بجامعة الكويت، أن صلة الرحم واجب ومقصد شرعي، ينضوي تحته عدد من المصالح التي يتشوفها الشرع، والمستقرئ لمصادر التشريع يجد دلالة ظاهرة في عناية الإسلام بالرحم من جهتين:
الأولى: من جهة تأصيل العلاقة بين الأرحام وضبطها والحث عليها، بوسائل متعددة.
الثاني: من جهة المنع والتحذير من إفسادها وقطعها وتقطيع أواصرها.
ومن ذلك أن جعل صلة الرحم علامة الإيمان بالله واليوم الآخر والحث عليها، كما جعل صلة الرحم سبباً لصلة الله تعالى للعبد ودخول الجنة والنجاة من النار، وجعل صلة الرحم سبباً لزيادة العمر وبسط الرزق ومحبة الأهل وحسن الخاتمة، وحرم قطيعة الرحم وجعل ذلك مانعاً من قبول العمل ودخول الجنة، وسبباً للعنة وقطع أسباب الهداية، كما رغّب في الصبر على أذى الأرحام، وجعل الصلة للرحم المشرك والحث على دعوته إلى الله، وشرع أحكام خاصة بالرحم لحفظها، كترغيب الصدقة على ذوي الأرحام وجعل الخالة بمنزلة الأم، وتحريم الجمع بين الأختين والبنت وعمتها أو خالتها وغير ذلك، بل وجعل قطيعة الرحم علامة لقرب الساعة، وحث على الاعتناء بعلم الأنساب.
وقد تجلى في تلك التشريعات المصالح الدينية والاجتماعية والاقتصادية التي يتشوفها الشارع من صلة الرحم وأهميتها في نظر الشرع.
وخطورة قطع الرحم؛ هي الوجه الآخر لأهمية صلة الرحم: فقد استقر في الشرع أن الشارع لا يأمر إلا بمصلحة، ومن الأوامر ما تكون الحكمة فيه ظاهرة من قبل أن يأمر به الشارع فيأمر به فيصير فيه حكمتان، ومن ذلك صلة الرحم.
ومن تأمل منظومة البر والصلة (صلة الرحم) في القرآن والسنة وجدها تأخذ موقع الصدارة في الأخلاق الإسلامية لأنها استوعبت كل الأخلاق.
وقد تنبه لأهمية علاقة ذوي الرحم مع بعضهم غير واحد من المفكرين غير المسلمين منهم «لوبيير» الذي يرى أن وحدة التغيير هي القبيلة أو العشيرة أو العائلة، وأن أي تغيير فيها يؤدي إلى تغيير في النظام بأكمله، فصلة الأرحام أداة من أدوات إظهار الدين وقوته وتماسكه، وقوة المجتمع تقاس بقوة الوصل أو ضعفه وانقطاعه، ولذلك تكاد المدارس الفكرية المعاصرة -الرأسمالية والعولمة والحداثة والعلمانية وغيرها من الأفكار المعاصرة الدخيلة- تناقص التصور الإسلامي للحياة الاجتماعية عموماً وتوجه جهودها إلى تغيير المنظومة الاجتماعية بالكامل من خلال تغيير المفاهيم والقيم والاتجاهات والسلوكيات عامة واتخذت من تعظيم المادية والفردية أو تذويب الهوية الإسلامية ونقد كل ما هو مقدس ومألوف وسيلة لتقويض وهدم منظومة البر والصلة في المفهوم الشرعي.
غرس القيم
وتضيف دكتورة سارة القحطاني أن المسؤولية تقع على عاتق أولياء الأمور مهمة جسيمة في غرس قيم البر والإحسان وصلة الأرحام، فتكوين العادات واستبذار القيم في النفوس منوط بهما قولاً وفعلاً، ولعل من الوسائل المعينة على ذلك: حث الأبناء على الاتصال بالأقارب والأرحام للسؤال في المناسبات وفي غير المناسبات، والدعاء لذوي القربى والأرحام أمامهم، وأخذ الأبناء إلى الزيارات العائلية الأسبوعية أو الدورية أو بالمناسبات الاجتماعية، وبيان أن ذلك من الوصل، وأن فيه الأجر العظيم، وتعويد الأبناء على الوصل بالإنفاق -حسب القدرة ودون تكلف- على القريب المحتاج بلباقة اجتماعية، وبيان أن الأرحام والقرابة درجات وحق كل درجة من القرب والصلة، والابتعاد عن المشاحنات والمشاكل أمام الأبناء، وتجنب ذكر أي سوء صدر من أحد الأقارب أو الأرحام. فالتنشئة البعيدة عن المشاحنات من أنفع الوسائل في ترسيخ تلك القيمة.
لا يدخل الجنة قاطع
وتشير الدكتورة مريم بنت عبدالرحمن الأحمد أستاذ الفقه والسياسة الشرعية بجامعة الكويت إلى أن الأقارب هم نعمة الله الكبرى وهبته العظمى، كم من أناس حرموا هذه النعمة، وتمنوا لو عاشوها، فكان لزاماً على من أكرمه الله أقارباً أن يصلهم بالإحسان، ويتعدهم بالرعاية، ويتفقد حاجاتهم، فينال بذلك الأجر الجزيل من المولى الكريم.
وقد تضافرت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية يحضان على هذه الصلة بأنواع البر وصوره كافة، يقول تعالى في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه «لا يدخل الجنة قاطع» أي قاطع رحم.
وللقطيعة مظاهر متعددة، من ذلك عدم المشاركة في الأفراح والأحزان، والتخريب بين الأقارب وتفريق شملهم، وقطع التزاور أو منعه إلا إن وصلوه، وهو ما يعتبر مكافئاً وليس بواصل، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها».
ولما غابت هذه المعاني لدى المجتمعات الغربية، وخبتت علاقات القرابة بمستوياتها كافة، وفقدت دورها انهارت الأسر وتفكك المجتمع.
لذلك كان حرياً بالمربين أن يعوّدوا من تحت أيديهم على صلة الرحم منذ نعومة أظفارهم، وأن يغرسوا فيهم معاني الصلة وفضلها، وأنها من أحب الأعمال إلى الله تعالى، فتزيد العمر وتبسط الرزق، وأنه ليس من شيء أطيع الله فيه أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من قطيعة الرحم، ثم على المربين التوجيه والمتابعة والتعهد المستمر لتثبت القيمة، ويثمر الغرس ثماراً زكية نافعة، يعود نفعها وخيرها على الأسرة والمجتمع.