الهادي التليلي
لا شيء يَنِدُّ عن الثقافة أو يخرج من ردائها إنها الإنسان، وهو يتكيف مع أخيه الإنسان، الثقافة وحسب تعريف إليونسكو 1982 (جملة السمات المشتركة المتوارثة والمكتسبة والسلوكات التي تجمع فئة اجتماعية بعينها). والثقافة بمعناها الوظيفي هي (جملة الأنشطة والفعاليات والمؤسسات الساهرة عليها والتي تترجم تعبيرات أفراد المجتمع الواحد من خلال ما يسميه علماء الاجتماع بالضمير الجمعي)، والثقافة هي حس الشعوب بمختلف تفرعاتهم تجاه الأحداث والعالم من خلال منجزات فنية تترجم الوعي باللحظة، والحاجة إلى تقديم منتج جمالي يجيب على سؤال أنا الآن هنا. والثقافة التي تحاول التحليق الدائم خارج الاصطلاح الأنتروبولوجي لها تسعى إلى أن تنحت لنفسها تعريفات لا حدَّ لها تتحدد بالممارسة الجمالية والحين الذي تنزلت فيه تلك الممارسة، هنا يحضرنا تعريف كلود ليفي شتراوس للثقافة بأنه لا توجد شعوب غير مثقفة، فاصلاً بين مفهومين مركزيين هما الثقافة والحضارة، كلود ليفي شتراوس يرى مزية الفعل الثقافي أنه يختزل العالم ويعيد تشكيله وفق رؤى وتصورات وخيال مجموعة بشرية تعيش لحظة تاريخية مشتركة، فالأسطورة عند علماء الأنتروبولوجيا والفلاسفة لحظة ما قبل الوعي وما قبل العلم، لحظة تفسير العالم بطرق غير علمية، بينما في المجال الثقافي فالأسطورة أعمق من ذلك بكثير، فهي من جهة ملهمٌ للأعمال الفنية ومادة خصبة يختلط فيها الواقعي باللاواقعي. والفنتازيا في أبسط تعريفاتها التحليق عن عالم الواقع انطلاقًا من آليات الواقع، وهروب عن الواقع إلى بناء لا منطقي حسب المتداول، ومنطقي حسب التسلسل الفني، وهو ما اعتبره كلود ليفي شتراوس بمزية الأسطورة.
الثقافة هي الإنسان حتى أن بعضهم عرَّف الإنسان بأنه كائن مثقف..
والحديث عن الصناعات الثقافية مسألة قديمة وحديثة، فالاستثمار في الفنون والممارسات الإبداعية لم تكن وليدة إحداث السينما مع الأخوين ليميار بل سبقت ذلك بكثير مع غوتنبارغ واختراع الورق، حيث فتح بابًا ثقافيًا أسس لصناعة في وقت مبكر جدًا، ولو نظرنا إلى الصناعات الثقافية المعاصرة نجدها جد مدرة بمرابيح كبيرة وجد مثيرة للاهتمام، فصناعة السينما اعتبرت بديلاً عن البترول لدى بعض الدول، ولو نظرنا إلى عائدات هوليود وبوليود لوجدنا هذه الصناعات وفرت لبلدانها زيادة على الأرباح وفرت صورة ذهنية ومكاسب ثقافية وإستراتيجية أعمق بكثير من الأرباح المادية الخرافية، فالصورة السينمائية المنحوتة في ذاكرة ووجدان العالم حول الرجل الأمريكي لم تصنعها السياسة الأمريكية، وليست نتيجة مخرجات مجتمع ناجح بقدر ما هي سليلة سينما نجحت في التسويق لصورة الرجل الأمريكي، ومن خلال هذه الصورة كانت الاستثمارات التجارية والديبلوماسية مضاعفة.
ولو نظرنا إلى واقع الحال وما أفرزته الرؤية السعودية 2030 من نجاحات وتخطيط إستراتيجي حكيم وتحقق لتنمية رشيدة نجد أنه ليس عفوًا تأسيس هيئة الأفلام في فبراير 2020، وهي هيئة حكومية مقرها الرياض وتهدف إلى تركيز صناعة واعدة لقطاع الأفلام وبالتالي بناء مدن صناعات ثقافية لصناعة الأفلام، والانتظارات من هذه الهيئة جد كبيرة نظرًا لما يتوفر للمملكة من كنوز جغرافية ومعالم حضارية يمكن أن تؤسس لصناعة سينمائية منافسة لأعتى البيئات العالمية المعروفة، فكل الإمكانات متوفرة لنجاح هذا المسعى والذي هو بمتناول الجهات الثقافية المختصة والمنتظر منها استقطاب مخرجين ومنتجين من العيار الذي يليق بأحلام المملكة في هذا المجال، ترسيخ مدن سينمائية وبالمعنى الصناعي، مناطق صناعية في المجال باب أول لتحقيق الخطة الإستراتيجية في هذا المجال، إضافة إلى تأسيس صندوق دعم الصناعة السينمائية الذي يعطي أجنحة للمنتجين السعوديين وغيرهم أجنحة أخرى للتحليق عاليًا في مجال صناعة أفلام احترافية، والنقطة الثالثة تحققت في جزء كبير منها وهي تأسيس قاعات سينما في مختلف ربوع المملكة بشكل احترافي مما يوفر سوقًا محلية للمنتج السينمائي.. فالسينما السعودية ستقول للعالم تحلمون فنحقق.