د. صالح بن عبدالعزيز العبداللطيف
ورد في التنزيل العزيز، الحث على أخذ العظة والاعتبار من آثار السابقين {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (82) سورة غافر.
وقال عبدالله بن سعد بن وقاص -أحد العشرة المبشرين بالجنة- «كان أبي يأخذ بأيدينا أنا وإخوتي يوقفنا على مشاهد رسول الله (غزواته) وآثاره، ويروي ما شهد من الماضي، ويقول لنا «تعلموا تاريخكم، وتعلموا سيرة نبيكم فإنها مجدكم ومجد آبائكم.
وليس من المبالغة في شيء القول: إنه لو عدّت أعظم ثلاث دول في العالم في القوة الناعمة لكانت بلادنا -دون أن ندري- إحداها؛ إذ حباها الله بثقل روحي وتاريخي وثقافي واقتصادي، يتربع على قمته الحرمان الشريفان، والآثار الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة وما بينهما وغيرها، وتعد المدينتان المقدستان بمثابة رمانة ضخمة محشوة ومزدحمة إلى الآخر بآثار نفيسة لا يجود بمثلها الزمان، تهوي إليها أفئدة مليارين من المسلمين تقريباً، فأينما يممت وأينما خطوت فثمة آثار جليلة تنطق بالمجد والسمو والإنسانية، يغبطنا عليها سائر الدول الإسلامية، ولكننا لم نستفد منها كما ينبغي، بحيث ينطبق علينا ما قاله الشاعر القديم:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
وفي الحقيقة؛ لا يوجد مواطن ولا مقيم مسلم ولا معتمر ولا حاج ولا زائر ولا مسلم في العالم كله لا تحدثه نفسه بالوقوف على تلك الكنوز الروحية، ولن يتردد لحظة في بذل أي مبلغ في سبيل ذلك.
ومن المؤسف، وإلى الحاضر القريب، أن السبيل إلى ذلك كان عن طريق رحلات بدائية جاهلة في سيارات أجرة أو «ونيتات» تنظم عشوائياً، أو ترتبها فنادق في المدينتين المقدستين، ويكون السائق أو العامة أو عابرو السبيل أو حتى أصحاب البقالات والمطاعم حولها بمثابة «المرشد السياحي» الذي يستعمل هنا مجازاً وليس حقيقة، والأنكى من ذلك أن بعضهم لا يتورع عن تشويهها بالكتابات والأدعية البدعية أو الشخصية، وبيع ترابها أو حجارتها على السذج والجهلة، والتمرغ على ترابها وطمسها وتخريبها إذا كان من المتشددين.
ومن الإنصاف أن نذكر ونشكر صناع القرار في هذا العهد، وبخاصة سمو ولي العهد الذي قضى على كثير مما يعتقد بأنه من «المحرمات» وما هي بذلك، بل هي كما يقول عامة نجد «أحل من الفقع»، والفقع لمن لا يعرف نوع من الفطر ينمو في الصحاري والبراري إذا جاد عليها الغيث والمطر، كما يشكر لهم إنقاذ البقية الباقية من الآثار الإسلامية والاهتمام بها وعرضها عرضاً يليق بها بعيداً عن البدع والخرافات، والتوسع في إنشاء المتاحف في المدينتين المقدستين وتشجيع ودعم المتاحف الخاصة فيهما المهتمة بالآثار الإسلامية، وينبغي أن نتذكر في هذا المجال أن الآثار نحن المسؤولون عن حفظها وصيانتها وإتاحة الوصول إليها، وأننا -ولله الحمد- القوي الأمين عليها. ومن الأهمية بمكان أيضاً أن نشيد بالجهود الفردية والتضحيات بالمال والوقت والجهد التي قام بها عدد كبير من أبناء هذه البلاد البررة، بل وأفنوا أعمارهم في سبيلها عندما كان هناك عدم حماس رسمي كافٍ بالاهتمام بالآثار والمتاحف في مناطق المملكة كافة، ويدخل في هذا أيضاً إقامة عدد كبير من «القرى التاريخية» بجهود مباركة من أهالي كثير من المدن والقرى، حيث حفظت تاريخاً وآثاراً وكنوزاً ثقافية كانت في الرمق الأخير من الحياة وأوشكت على الاندثار والضياع إلى الأبد. لقد أحسنت الدولة صنعاً حينما حولت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني إلى وزارة؛ إذ لدى المملكة مقومات سياحية هائلة متنوعة لا تقتصر فقط على الآثار الإسلامية الباذخة في المدينتين المقدستين بل تشمل البلاد كافة، ولا تخلو أي منطقة ولا مدينة بل ولا قرية من آثار ومواقع وتراث لمعظم الحقب التاريخية لما قبل التاريخ مروراً بالجاهلية والإسلام والعصور الحديثة بحيث تلبي متطلبات أنواع السياحة كافة من دينية وتاريخية وثقافية وتربوية واقتصادية وترفيهية وغيرها. ولا نغمط وزارة السياحة في الإشادة بها على جهودها في مجال السياحة وحماية الآثار والمواقع والتراث وإنشاء المتاحف وخلق وعي سياحي، ولكن نريد بصراحة أن يكون ذلك بزخم أكبر وتثاؤب أقل لأننا تأخرنا في ذلك كثيراً، نريد أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن يتحول اهتمامنا بالسياحة إلى استراتيجية طويلة المدى، وأن تشرك الوزارة القطاع الخاص في ذلك وتدعمه لأنه أسرع في الإنجاز، وبتكاليف أقل، ويساعدها في تحمل العبء والحمل، وخير مثال على ذلك الدول المتقدمة والمشهود لها باستثمار مقوماتها السياحية على أسن وجه، حيث يتولى ذلك القطاع الخاص عبر شركات تتخذ من العلم والتقنية وحسن التدبير واحترام السائحين ما يوصلها إلى الهدف المنشود، والمطلوب أيضاً من الوزارة وبإلحاح أن تكون صناعة السياحة «موطنة» أولاً وثانياً وثالثاً وأخيراً من سائق الحافلة إلى المرشد السياحي وإلا كنا كمن ينفخ في قربة مثقوبة، كي تحقق السياحة أهم هدف في رؤية المملكة 2030 وهو خلق مصادر دخل أخرى تعتقنا من الاعتماد الكلي على النفط الذي يمثل مصدر الدخل الرئيس لبلادنا، وهو مصدر معرض للنضوب لإسرافنا في استنزافه، معرض لإيجاد بدائل عنه بفعل تقدم العلم والتقنية بشكل سريع مذهل، والنفط الصخري دليل على ذلك، التاريخ ينذرنا بأن مصادر دخل كانت تعتمد عليها بعض الدول تلاشت بين يوم وليلة، وللتمثيل فقد قضى اكتشاف اليابان للؤلؤ الصناعي على صناعة وتجارة استخراج اللؤلؤ الطبيعي في دول الخليج العربي التي كان بعضها يعتمد عليه فأصيبت بأزمات اقتصادية حادة، كما قلل اكتشاف النفط والغاز من أهمية الفحم كمصدر للطاقة فتضررت الدول المنتجة له، والأمثلة عديدة لا نريد الاستطراد فيها، وآخرها الآن تهديد الثورة الرقمية بالقضاء على كثير من الوظائف ومصادر الدخل التقليدية. إن الهدف الأول لأي دولة خلق الوظائف لمواطنيها، ولا يكون ذلك إلا بتعدد مصادر الدخل، وما يضاعف مسؤوليتنا تجاه الأجيال القادمة الاعتماد على مصدر دخل واحد مهدد إضافة إلى الانفجار السكاني حيث لدينا معدل خصوبة من أكبر المعدلات عالمياً يصل إلى 2.5 طفل لكل امرأة؛ لقد كان عدد سكان المملكة في عام 1950م، 3.121.340 نسمة، والآن في 2020م أي بعد 70 سنة أصبح 34.200.000 نسمة، وعدد المواطنين بعد حذف عدد الوافدين 23.200.000 نسمة تقريباً، والله أعلم كم سيصل العدد خلال العقود القليلة القادمة، وبتواليات حسابية مذهلة تزيد كثيراً على حسابات مضاعفات حبات القمح في خانات الشطرنج البالغة 64 والتي طلبها مخترع الشطرنج كمكافأة له من حاكم الهند الذي استقلها (بل واستقل عقله) في بادئ الأمر ثم اكتشف أن خزائن الهند كلها من القمح لا تفي بها. إن معظم الدول المتقدمة في أوروبا واليابان لديها معدل سكان يكاد يكون ثابتاً بسبب وعي مواطنيها أولاً وأخيراً، ونحن لدينا أحاديث جليلة يمكن الاعتماد عليها لتنظيم النسل مثل «حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله» وحديث «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، لقد دهشت وأعجبت في سفراتي الكثيرة باستغلادول كثيرة للمقومات والسياحية لديها حتى لو كان بعضها متواضعاً ومحدود القيمة، فأحيت مدناً وقرى وخلقت آلاف الوظائف لمواطنيها، ولعمري لو كان غار حراء وحده (ناهيك عن الآثار الإسلامية الأخرى لدينا) موجوداً لدى إحدى الدول الإسلامية لكان استثماره سياحياً رقماً ثابتاً في ميزانيتها، فمن هو المسلم الذي لا تتوق نفسه إلى زيارة المكان الذي شعت منه أنوار الهداية للعالم كله، وهل يمكن حصر الفوائد الروحية والتاريخية والثقافية والتربوية والعسكرية لو كان هناك معلم سياحي ضخم حول جبل أحد وما حوله يتكون من متحف كبير يشرح فيه بالتفصيل بالكلمة والصوت والصورة والوسائل التقنية الحديثة تفاصيل معركة أحد التاريخية، وما أجمل أن نرى المؤرخين والباحثين والمثقفين وطلبة المدارس والحجاج والمعتمرين والزائرين وهم يقفون ميدانياً وجهاً لوجه أمام فصل من التاريخ الإسلامي بدلاً من معلومات نظرية جافة لا تساعد «لوجستياً» في تصور المعركة ونتائجها على الوجه الصحيح، وكم هو المردود الاقتصادي والوظائف العديدة من وراء الرحلات السياحية إليه وإقامة عشرات المقاهي والمطاعم الصغيرة والأكشاك التي تبيع كتباً وبحوثاً وصوراً تقليدية ورقمية عن المعركة والجبل، ودكاكين للحرف والصناعات الشعبية والتقليدية وإنتاج الأسر.. الخ.
ولنعد إلى نظرية جعل «الحبة قبة» والعكس إلى مجال إنساني آخر بعيد جداً عن الآثار الإسلامية، ويتعلق بالرومانسية والعشق والعواطف المرهفة التي طالما تغنى بها الشعراء والروائيون والمغرمون والحالمون وغيرهم في العالم كله، ولعقد مقارنة سريعة عن مدى الإفادة من أسطورتين رومانسيتين على المستوى العالمي وهي أسطورة قيس وليلى في العالم العربي، وأسطورة روميو وجولييت في العالم الغربي والعالم كله، حيث استغلت مسرحية شكسبير عن روميو وجولييت استغلالاً سياحياً كبيراً وبخاصة في مدينة فيرونا الإيطالية التي دارت فيها الأحداث المسرحية، وبنى بيتان لروميو وجولييت -يشك في صحتهما التاريخية- يؤمهما -دون مبالغة- ملايين السياح والعشاق ومن هم في شهر العسل، وتدر على المدينة بل وإيطاليا فوائد اقتصادية وثقافية ودعائية لا تحصى، بينما نجد في الجانب الآخر أن أسطورة العشق والغرام لدينا قيس وليلى لم تستغل أبداً، وما زال جبل التوباد في مدينة الأفلاج والغار الذي يلتقي فيه العاشقان محاطين بشبك فقط، على الرغم من أن قصة قيس وليلى حقيقية بينما روميو وجولييت محض خيال، وعلى الرغم من أن تضحيات قيس وهيامه وجنونه بليلاه بلغ الغاية التي أوصلته إلى الخبال وأصبح لا يدري «أثنين صلى العشا أم ثمانيا»، واختزال نجد كلها بجبالها وهضابها وسهولها ومساحتها الشاسعة لتكون فقط داراً لمحبوبته ليلى العامرية:
لا تقل دارها بشرقي نجد
كل نجد للعامرية دار!
وعلى الرغم من أن أشعاره في مجال العشق والغرام لا يضارعها في صدقها وحرارتها وعمقها أشعار أي متيم آخر شرقاً أو غرباً حتى وصل إلى حافة الجنون بل ولقب بمجنون ليلى. ولو كان هناك جهود أكاديمية وثقافية وفنية عربية لعرض عبقريته وأشعاره على العالم لربما سحب البساط من أسطورة روميو وجولييت، ولو كان هناك متحف بجانب جبل التوباد يحكي قصته ولواعج غرامه باستخدام الطرق التقليدية والتقنية الحديثة، ويحوي كل ما له صلة به مثل ديوان شعره والدراسات التي أعدت عنه، والأفلام السينمائية التي استلهمت تلك الأسطورة، وأشعار أمير الشعراء أحمد شوقي على لسان قيس وليلى، والأغاني التي تمثلت شعره في عدد كبير من البلاد العربية، وبخاصة أغاني محمد عبدالوهاب الجميلة، ومحاضرات عنه، وما كتب عنه في دراسات مستشرقين أوربيين وغيرهم، لكان هذا المتحف مزاراً ومعلماً سياحياً لمدينة الأفلاج، ولأوجد عشرات الوظائف لها من خلال إقامة فندق بجانبه ورحلات سياحية ومطاعم ومقاهٍ صغيرة وأكشاك لبيع كل ما يتعلق بقيس وليلاه.. الخ، وما يقال عن جبل التوباد وقيس وليلى يمكن أن يقال عن أسطورة الكرم العربي بل العالمي حاتم الطائي وقبره وبقايا قصره في بلدة توارن في منطقة حائل، وأسطورة الفروسية والشجاعة والحب أيضاً عنترة بن شداد وصخرته في بلدة القصيباء في منطقة القصيم وصحراء الربع الخالي الذي تطل المملكة على أوسع جنباته، ولكن لم تستغل ذلك عبر رحلات سياحية يتوق إليها أعداد هائلة من المواطنين والوافدين والسياح، بينما سبقتها إلى ذلك دول عربية شقيقة، وأجدني مقصراً جداً في ذكر المقومات والمجالات السياحية الأخرى التي تزخر بها مناطق المملكة كافة ومدنها وقراها لأن المجال مجال تمثيل لا حصر. ولخلق آلاف الوظائف في مجال السياحة لا بد من تقديم الخدمات السياحية مجاناً ودون مقابل (بلوشي كما يقول إخواننا المصريون) إذ ينبغي فرض الرسوم المعقولة التي سيتقبلها الجميع مقابل الاستمتاع والإفادة من المقومات السياحية كما هو موجود في العالم كله، فمثلاً يعتبر مهرجان الجنادرية -بحق- أعظم وأغنى مهرجان في الشرق الأوسط كله في المجالات كافة، حيث يؤمه الملايين والدخول إليه مجاناً، فلماذا لا يكون الدخول إليه بمقابل مادي، ومثل ذلك يقال عن المتاحف والمهرجانات والمعارض الثقافية والعلمية والترفيهية والاقتصادية وغيرها، وعلى رأسها وأجلها الآثار والمواقع الإسلامية، ومن مفارقات انفس البشرية أنها تعلي من شأن الأشياء التي تحبها وتتوق إليها إذا كانت بثمن، خلافاً لتلك التي تقدم لها دون مقابل.
وهذه النظرة الساذجة موجودة لدينا بشكل أكبر لدى الكثير من أهل المدن الصغيرة والقرى حيث تقدم الخدمات السياحية مجاناً، بل يعمد البعض منهم إلى استضافة السياح، وبخاصة الغربيون والتكلف في إكرامهم، مع العلم بأن السائح الحديث لا يطمح إلى مثل هذه المبالغات في الكرم، بل يريد خدمات ومعلومات محددة تساعده على التعرف واستكشاف المقومات السياحية التي شد الرحال إليها، وهذا يذكرنا بما كنا نعامل به المدرسين والمهندسين والأطباء (وكل ذي بنطال) قبل أكثر من نصف قرن، حيث كنا نؤثرهم على أنفسنا بأول تباشير الفواكه، والرطب وبأنواع الكعك المحلي كالكليجا، وقرص عمر والفتيت وغيرها، وبالطبع فإن الكرم والضيافة العربية وحسن المعاملة أمور عرفنا بها ونفخر بها، ولكن ينبغي أن يكون ذلك بشكل معقول، ومعلوم أنه في الدول السياحية المعروفة لا شيء يقدم مجاناً. ومن جانب آخر، فإن استثمار المقومات السياحية في بلادنا سيخلق سياحة داخلية توفر على البلاد مبالغ طائلة يصرفها المواطنون في السياحة الخارجية، وليس سراً أن كثيراً من دول السياحة الخليجية تعد برامجها السياحية بعد أن تدرس جيداً أوقات المناسبات والأعياد والإجازات لدينا حتى تكون ملائمة لسياحنا ولجذب أكبر عدد منهم، وهذه هي «الشطارة» في السياحة. وفيما يتعلق بالسياحة الداخلية، لا بد من الاعتراف بأن هناك جفافاً سياحياً إذ ما زلنا في «سنة أولى سياحة» وسكان المملكة يحتاجون الكثير الكثير في هذا المجال على الرغم من المشاريع الكبيرة السياحية التي أقيمت في المملكة في المدينتين المقدستين، وفي الدرعية التاريخية، وجدة التاريخية، وسوق عكاظ وغيرها، وبعضها في الطريق كمشروع القدية ونيوم، وهي في الحقيقة والإنصاف أوجدت البدايات لسياحة داخلية ناجحة، ولم يعد اليوم كالأمس، بل أصبح أكثر إشراقاً وجمالاً.