هدى مستور
سواء أردنا بمفهوم الشخصنة هنا؛ الحكم على الأدلوجة -فلسفة، ثقافة، مجموعة أفكار- جملة واحدة، من خلال ممارسة شخصية خاطئة، تقع من عدد من المنتسبين لها، أو قصدنا بالشخصنة؛ ممارسات استغلالية، تقع من المنتسبين للأدلوجة، بغرض نيل مآربهم وتعظيم شخوصهم.
وبين المعنيين ارتباط تسلسلي، فالمعنى الأول أحد نواتج الثاني، وكلنا يعرف أن النتيجة الصحيحة، لا تنبع إلا من حجة صحيحة، فكيف لو تبنى الناس مغالطة فردية، قائمة على منطق غير سليم؟!
ولأن إلقاء التهم والتسرع بالحكم، يأتيان من سوء الفهم، مع ادعائه، فإننا لا نفتح ملف ضخم حافل بالتهم، سواء ضد فكرة أو تجاه شخص إلا ووجدنا سببه يعود إلى أن كل منا يزعم بغرور ودهاء احتكاره للحقائق.
في حين أننا نغفل عن اعتبارات عدة كالنظر إلى الطبيعة البشرية، وما جبلت عليه من ضعف ونقص وجهل، وفي الوقت نفسه فإن مطلق الأحكام، ليس أهلاً للحكم على الشخص ذاته، وإنما الحكم يجيء على الممارسات الخاطئة التي تقع منه، مع الإقرار بالجهل بما يُحجب دوننا، من نوايا ومبررات، وسياقات.
إلا أنه نظراً لوجود عدد ليس بالقليل من الناس، يعجز عن الفصل بين القول والقائل، فإما لكونه يعجز عن إدراك فكرة مجردة أو الإحاطة بتصور عام، إلا من خلال تجسدها لدى الداعي والناقل لها، ومدى تمثلها في سلوكه، والانتصار لها في واقعه. أو أنه أقل نضجاً من أن يفصل بين شعوره تجاه صاحب الفكرة، والفكرة نفسها.
وفي قوله تعالى: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} لفتة إلى أن الحكم على الآخر لا ينفصل ولا ينفك عن الحكم على النفس، إذ رؤية الآخر، وتقييمه والحكم عليه، يعد مرآة عاكسة لما يجري بداخل النفس؛ وتقطن بالنفس مجموع مشاعر وأفكار جاءت بعد عدد كبير من الخبرات والتجارب. ولذا فإنه بالغوص في أقرب نقطة في عمق من يمارس الشخصنة، نلحظ أنه -وبدون وعي- يمارس نوعاً من الإنكار، والجحود، والتغطية، لسمات وخلال في عمقه، إما لوجود مماثلة لمواضع النقد لدى الآخرين في داخله، أو أنه يمارس التغطية والإنكار تجاه شعور مرير بالمقاومة لها، فيقع في إحدى المغالطات النفسية وهي «الإسقاط» ؛ فحين تُتهم شريعة الإسلام مثلاً -خطأ- بأنها تمارس الحجر والإقصاء على المرأة على سبيل المثال، فإحدى الاحتمالات الواردة بأن هذه الفكرة لا تعدو أن تكون انعكاساً لحالة شعورية مركبة من مجموع استياء وغضب وعداء تجاه موقف تعرض له ومورس عليه فيه الحجر والإقصاء، وحين يراود النفس شعوراً بالنفور من هيئة المتدين وصورته، فربما ذلك يعود لمقاومة إحساس داخلي مرير، من جراء جناية تعرض لها من شخص يحمل الهيئة نفسها.
وأنا أكتفي بهذه الأمثلة، أذكِر بأن بعض الادعاءات التي تنسب للدين وللمنتسبين له «من جراء ممارسات خاطئة، تقع من فئة محدودة من الناس، فوق كونها تبقى محدودة بالنظر للكثرة الغالبة، فهي مجرد أفكار ناقصة، وغير سوية، وهي مجموعة مشاعر ربما تخص من يشخصن وحده، لا علاقة لها بالحقيقة كاملة، كما أنها لا تخدمه، بل هي تضره، وهو أول من يلحقه أذى تبنيها؛ إذ إنها لا تكشف عن تحامل واضح، بقدر ما تفضح عداءً للنفس مدفون؛ إذ كل من يحمل ثقل العداوة لغيره، لا يعني بالضرورة أن غيره يبادله العداء نفسه.
وضعيف البصيرة هو من لا يبصر ما يدور بداخل نفسه، في حين أن الواعي هو من ينجح في التقاط منشأ الفكرة الخاطئة، والإمساك بجهة الشعور البغيض، قبل أن يقذف بها غيره كذباً وادعاء، ثم يألف الكذبة ويصدقها.
إن الوعي المرتفع يبدأ حين نقرر أن نتوقف عن التعميم. والتعميم هنا يعني: أن نسمح بتحويل المشاعر والأفكار التي جاءت من تجاربنا الشخصية إلى أحكام وقواعد تتحكم في تقييمنا للعالم من حولنا.
هذا فيما لو كانت الشخصنة بالمعنى الأول الذي بدأت بها مقالي هذا، أما فيما لو كانت الشخصنة بمعنى الممارسات الاستغلالية، التي تقع من المنتسب، بغرض تعظيم شخصه، وأن يجد له مكاناً، ويحظى بفرصة، ولم أجد لها في نفسي متسعاً للتبرير، إلا أنها ممارسة تعكس حالة احتيال داخلية مزرية، تتكون من مجموع انغلاق الوعي، وعبادة الصورة الظاهرة!
وبلغ الحد مبلغاً في التلاعب والاستغلال إلى إعادة تفسير وتأويل وتبرير، الأخطاء، والتجاوزات، والمخالفات، التي تقع وفقاً لمواصفات قياسية ترضخ في تبديلها لمصالح عدة؛ كضغوط سلطوية، وهيمنة إعلامية، وأخرى لثقافة شعبوية بائدة، يحدث ذلك كله، تحت غطاء الأيديولوجيا!، وبعد مرور عقود تُحسب في حس الإنسان -غير الواعي- من ركائز ثقافته ودعائم فلسفته في الحياة، وما هو من ذلك في شيء!؛ وأكتفي بمثال واحد: كالخلل في قياس حجم حكم الخطأ الواحد، فهو يتلبس بالشعور المضاعف بالخزي والعار والذل معاً، فيما لو وقع من أنثى دون الذكر! وحين تشكو نساء كثر من أنواع التنمر، والتعنيف، والإقصاء، واللاندية الإنسانية مع الذكور، هذا فضلاً عن ضغط ثقافة الامتيازات الذكورية المجتمعية السائدة، والاكتفاء بالدور الثانوي المساند، لفترة زمنية طويلة، فإن من يغربل أو يشكك طالباً الحقيقة يأتيه التبكيت والتحذير الفوري من تهمة الانسياق وراء الدعوات النسوية!
شخصنة الأيديولوجيا تقع كثيراً، وإن كانت الحالة الأولى التي يراد منها؛ الحكم عليها من خلال ممارسة شخصية فردية خاطئة، تقع من المنتسبين لها، إنما تقع لقصور أو ضعف وعي لدى مُطلِق الحكم، إلا أن الحالة الثانية للشخصنة، التي تقع ممن يستغل الأيديولوجيا، لمآربه؛ كتعظيم شخصه، ونيل حظوظه، وتمرير ثقافته، فإن تبعاتها الكارثية تتجاوز الفرد لجذوره.
إن أعظم هدية نقدمها لأنفسنا وللعالم في الوقت نفسه، أن نكف عن الإساءة ونحيا بسلام، وتبدأ تلك الخطوة بترك إطلاق الأحكام.