ناقشني الصديق الدكتور محمّد بن أحمد المشيقح حول مدى جواز ما يشيع في لغة بعض المعاصرين من استعمالهم أسلوب (ولاسيّما كذا) بحذف الواو، ولا النافية للجنس فيقولون: (سيّما كذا)، وحذف الواو جائز عند بعض علماء العربيّة الذين استشهدوا له بقول الشاعر:
فِ بالعقود وبالأيمان لاسيما
عقدٌ وفاءٌ به من أعظم القرب(1)
أمّا حذف لا النافية للجنس فليس بجائز، ومع ذلك فإنّه استعمال قديم عند عامّة الناس في زمن أبي بكر الزبيديّ (ت379هـ) أي في القرن الرابع الهجريّ، قال الزبيدي: «ويقولون: فعلوا ذلك سيّما أخوك فيسقطون لا. قال الزبيديّ: والصواب أن يقال: لاسيّما. وقد أولع بذلك كثير من الكتّاب والأدباء والشعراء. أنشدني أبو عليّ إسماعيل بن القاسم لأبي عليّ بن الأعرابيّ صاحب له:
طرق بغداد أضيق الأرض طرقًا
سيّما بين قصرها والرصافة
والصواب لاسيّما ولاسيَما بالتشديد والتخفيف، ولا يجوز حذف (لا) البتة»(2).
وقد وافق أبا بكرٍ الزبيديَّ الخطيبُ التبريزيُّ (ت502هـ)(3)، وابنُ هشامٍ اللخميّ (ت577هـ) فيما ذهب إليه من منع استعمال أسلوب لاسيّما بحذف (لا)(4)، ولكنّ اللخميَّ جعل استعمال (سيّما) من كلام الخاصّة، وليس من كلام العامّة حين قال: «فأمّا قول بعض الخاصّة من الكتّاب والأدباء والشعراء: سيّما بغير (لا) فذكر الزبيديّ أنّه لا يجوز حذف (لا) البتّة»(5)
وفي هذا دلالة على أن حذف (لا) من (لاسيّما) قد فشا، وتسرّب إلى لغة الخاصّة في زمن اللخميّ في القرن السادس الهجريّ.
وقد نبّه أبو حيّان الأندلسيّ (ت745هـ) في القرن الثامن الهجريّ إلى استعمال أسلوب لاسيّما بغير (لا) حين قال: «ولا يجوز حذف (لا) من (ولاسيّما)، وقد أولعت به العامّة، ولا يوجد ذلك في شعر فصيح البتّة، وإنّما يقول به المحدثون من الكتّاب والشعراء، وهو لحنٌ»(6).
ويفهم من قول أبي حيّان أنّ استعمال أسلوب (سيّما) قد فشا بين العامّة، والمولّدين من الشعراء والكتّاب.
وأسلوب (ولاسيّما كذا) أسلوبٌ قديم في العربيّة، فقد ورد في معلّقة امرئ القيس:
ألا رُبَّ يومٍ لك منهنّ صالح
ولاسيَّما (يومٌ/يومٍ/يومًا) بدارة جلجل(7)
وقد كثر التصرّف في أسلوب (ولاسيّما ...) من حيث ذكر الواو وحذفها، وتعدّد دلالات الواو، والاختلاف في نوع اسم لا النافية للجنس أمفرد هو أم مضاف؟ والاختلاف في نوع ما، والاختلاف في الأوجه الإعرابية للاسم الواقع بعد (ما). وأسلوب (ولاسيّما ...) في الأصل مركّبٌ من (الواو وقد تحذف، ولا النافية للجنس، وكلمة سيّ أو سيَ بالتشديد أو بالتخفيف، وما[8]). وأوّل ما يصادفنا في هذا الأسلوب الخلافُ في نوع الواو أحرف اعتراض هي أم حرف استئناف أم واو الحال أم زائدة(9)، والثاني هو الخلاف في نوع اسم لا، وهو إمّا أن يكون مضافًا منصوبًا، وتكون ما زائدة أو موصولة أو نكرة موصوفة بالجملة، وإمّا أن يكون مفردًا مبنيّاً على الفتح، وتكون ما كافّة(10)، والثالث هو الخلاف في إعراب الاسم الواقع بعد (ما)، فهو إمّا مجرور بالإضافة وما زائدة، وإمّا مرفوع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، وتكون ما موصولة أو نكرة موصوفة، وإمّا منصوب على التمييز، وتكون ما كافّة عن الإضافة(11). ويجوز أن يعرب الاسم المنصوب بعد (ما) مفعولًا به لفعل محذوف، وتكون ما نكرة غير موصوفة في محلّ جر بإضافة سيّ إليها(12).
وفي استعمال أسلوب (سيّما) بحذف لا النافية للجنس إشكالٌ يتعلّق بحذف العامل الذي نصب (سيّ) إن عُدَّت اسمًا للا النافية للجنس مضافًا منصوبًا، أو في سبب بنائها إن عدّت (سيّ) اسمًا للا مفردًا مبنيًّا. وهذا الإشكال في حذف عامل النصب أو المتسبّب في بناء (سيّ) على الفتح هو الذي يجعلني أرى عدم جواز استعمال أسلوب (سيّما) بدون (لا).
... ... ...
الحواشي:
(1) انظر الأنصاريّ، ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق: فخر الدين قباوة، دار اللباب، إسطنبول، تركيا، الطبعة الثانية، 1439هـ/ 2018م، ص197.
(2) الزبيديّ، محمّد بن حسن: لحن العوامّ، تحقيق: رمضان عبد التوّاب، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 1420هـ/ 2000م، ص290، ص291.
(3) انظر التبريزيّ، يحيى بن عليّ: شرح القصائد العشر، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، دار الطلائع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2018م، ص46.
(4) اللخميّ، ابن هشام: المدخل إلى تقويم اللسان، تحقيق: حاتم الضامن، دار البشائر الإسلاميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1424هـ/ 2003م، ص217.
(5) اللخميّ، ابن هشام: المدخل إلى تقويم اللسان، تحقيق: حاتم الضامن، ص217.
(6) الأندلسيّ، محمّد بن يوسف: تذكرة النحاة، تحقيق: عفيف عبد الرحمن، مؤسّسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1406هـ/ 1986م، ص298.
(7) انظر القصائد العشر مع ذكر رواياتها وأنساب قائليها، عنيت بتصحيحها وضبطها والتعليق عليها إدارة الطباعة المنيريّة، 1352هـ، ص4.
(8) انظر الأنصاريّ، ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق: فخر الدين قباوة، ص197.
(9) انظر الدرّة، محمّد عليّ: فتح الكبير المتعال إعراب المعلقات العشر الطوال، مكتبة السوادي، جدّة، المملكة العربيّة السعوديّة، الطبعة الثانية، 1409هـ/ 1989م، جـ1، ص48.
(10) انظر الأنصاريّ، ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق: فخر الدين قباوة، ص197.
(11) انظر الأنصاريّ، ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق: فخر الدين قباوة، ص197، ص198.
(12) انظر الدرّة، محمّد عليّ: فتح الكبير المتعال إعراب المعلقات العشر الطوال، جـ1، ص49.
** **
- د. فهد الخلف