عندما يفتقد العقل خصائصه التنويريّة مثل: السؤال، والجدل، والشكّ، ينغلق على نفسه ويحصّنها بمجموعة من القوانين والتقاليد والأنظمة الثقافيّة الموروثة، والتي اكتسبت قُدسيتها بحكم الزمن. إن هذه التقاليد الثقافيّة ليست سوى وسيلة للمحافظة على وجودٍ ما للإنسان، أو لحمايته في غياب العقل. لعل هذا هو السبب المباشر في تمسّك العقل الأعمى بالتقاليد؛ لأنها تعوّض غياب العقل؛ حيث جاهزيّة الأفكار، وجاهزيّة الصيغ التعبيريّة، ونمطيّة السلوك. هكذا يصنع العقل الأعمى لنفسه شرنقة يتحصّن فيها وينعزل عن العالم؛ لأن له طقوسه الخاصة ولغته الخاصة، وهويّته الخاصة، وأفكاره المطلقة الخاصة التي يُضحي في سبيلها؛ ومن ثمّ يعتمد ثنائية (القبول/ الرفض) في علاقته بالوجود، فما هو مطابق لما اعتاد عليه وألفه فهو مقبول، وما هو مختلف ويقع خارج إطاره النسقي فهو مرفوض! إن خرافة الفرد المعزول، والمكتفي بذاته، هي نتاج طبيعي لممارسات هذا العقل وفاعليته في الحياة؛ حيث يتصوّر هذا الفرد المعزول أنه يمتلك جميع المقوّمات الإنسانية التي يمتلكها المفكرون والعلماء، وكأن معرفته المطلقة والضيّقة عن الواقع، تفوق ما توصّلت إليه نظريّات العلم الحديث. وتعد فكرة الجدل حول مركزيّة الأرض أو مركزية الشمس، خير برهان على الوعي الزائف للعقل الأعمى بالوجود والحقائق؛ لأنه عقل ضدّ الحركة؛ ولذا رفض أصحابه قديمًا نظرية كوبرنيكوس؛ لأنها تقول: إن الأرض تدور وتتحرّك، والحركة تزعجه! فلا يقبل التحوّل في البنية الذهنيّة؛ ولذا ينزلق أصحابه في دائرة الخلط بين الأشياء، ناهيك عن الفهم الساذج لكل مفهوم جديد؛ حيث ينظر في المفهوم الجديد بكل تعقيداته وتحوّلاته وارتحالاته المعرفيّة، بفهم بسيط، بل وساذج في معظم الأحيان، ومثال ذلك تسرّع النقاد العرب، وهم يصنّفون ضمن النخبة العربيّة، في فهم مقولة رولان بارت الشهيرة عن (موت المؤلّف)، فبارت لم يقصد هذا المعنى الساذج والدارج في أذهان النقاد العرب وعلى ألسنتهم، وإنما يقصد أنه مع ظهور التيار البنيوي تعاظم دور الأنساق في الشرح والتفسير والتأويل، وأصبح النسق، سواء كان لغويًّا، أو ثقافيًّا، أو دينيًّا، أو أسطوريًّا، مصدرًا للمعنى، وهذا يعني انتقال سلطة المعنى الذي كان يملكها المؤلّف (والمعروفة في النقد القديم بالمعنى في بطن الشاعر) إلى النسق. فالوعي بهذا التحوّل كان له أكبر الأثر في تطوّر الدرس النقدي. إن مقولة موالمؤلّف تعني في الفكر النقدي الغربي، تحوّل سلطة المعنى من المؤلّف إلى النسق. فهل كان الفكر النقدي العربي على وعي بهذا التحوّل؟ أم ما زال العقل الأعمى لم يغادر برنامجه الفكري الكلاسيكي الذي يدرك به كل مستجدّ؟ إن هذا الإجراء العقلي لا يشتغل على تسطيح الأفكار عن المفاهيم الجديدة فحسب، بل وتشويهها أيضًا على النحو الذي يخدم مصالحه الخاصة المتمثّلة في جذب الحاضر نحو الماضي. حدث هذا قديمًا مع كتاب الشعر لأرسطو، عندما أخذ النقاد العرب القدماء قواعد الشعر منه، دون الوعي بأنه كتاب أقرب إلى فن الخطابة منه إلى الشعر، وأن القوانين في كتاب الشعر لأرسطو، هي قوانين لفن الخطابة. الأمر الذي جعل الشعر القديم يستعصي على الفهم الموضوعي خارج أطر البلاغة الأرسطيّة التقليديّة بطابعها المعياري. فوجدنا الخطاب النقدي العربي القديم عن الشعر لا يغادر منطقة ذوق الناقد ومعاييره الملتبسة، فوقع النقد العربي القديم في مأزق (الجيّد والرديء – الحسن والقبيح). انتبه أصحاب جماعة الديوان إلى هذه الإشكاليّة، وبالتحديد عباس محمود العقاد. لكن النقاد المحدثين لم يلتفتوا إليه ولم يعيروه اهتمامًا. إن الأنظمة المعياريّة، سواء كانت أدبيّة أو ثقافيّة لا تصلح للتطبيق خارج حدودها الجغرافيّة أو التاريخيّة؛ لأنها أسهمت في تشكيل هذه الأنظمة، ومن ثمّ تعدّ مكونًا رئيسًا لها؛ ولذا عمّد فكر ما بعد الحداثة إلى تجاوز هذا الإجراء المنهجي، فأضحت أنظمة الفكر تتسم بالمرونة وتقبل التحوّل، وهذا يتعارض مع جمود العقل الأعمى.
حدث هذا الالتباس، أيضًا، حديثًا مع مفهوم التفكيكيّة. فالتفكيكيّة عند دريدا لا تعني الهدم، كما يتصوّر البعض، وإنما تعني إعادة النظر في مركزيّة المعنى. فالمعنى في التفكيكيّة لا يركن إلى مركز بعينه؛ ومن ثمّ ظهرت مقولة نقد المركزيّة الغربيّة. وكذا نظريّة (إساءة القراءة) عند هارولد بلوم، لا تعني القراءة الخاطئة، كما يتصوّر البعض أيضًا، بل تعني القراءة الإشكاليّة التي تفسح المجال أمام قراءات متعدّدة عن الموضوع نفسه. ويحدث هذا مع مفهوم البلاغة الجديدة.. سوف نفتح حوارًا معرفيًّا حول آليّات الوعي بالمفاهيم في النقد العربي قريبًا -بمشيئة الله تعالى.
إن الأفكار الثابتة، مثلها مثل الأنظمة الثابتة، لا تصلح للتطبيق خارج سياقها الذي نشأت فيه؛ ولذا فإن العقل الأعمى، هو عقل محكوم بأنظمته وقواعده الإيديولوجيّة الخاصة به، والتي لا تصلح للتطبيق خارج مجاله الجغرافي، أو التاريخي. هو عقل محكوم ببرنامج فكري ثابت وليس بإستراتيجيا متحرّكة تقبل التغيير.
إن عملية الصعود الاجتماعي للعقل الأعمى ولغته الضيّقة، كانت سببًا مباشرًا في كثير من الإشكاليّات لدى العقل العربي في تقبّله لمتغيّرات العصر ومفاهيمه في مرحلة ما بعد الكولونياليّة مثل: الحداثة والرأسماليّة، والعولمة، والليبراليّة، والديموقراطيّة، والعلمانيّة. فمعظم المجتمعات المتحضّرة، نهضت على أفق أفكار طبقة من النّخب والعلماء لتزويد طبقة عوام الناس بتفسيرات جديدة للعالم والوجود والأشياء، وفي حالات تسلّل العقل الأعمى إلى طبقة النخبة، سواء بدوافع قوميّة، أو ثقافيّة، أو دينيّة، يصبح المجتمع أكثر سكونًا وأقل حراكًا؛ لأن شريحة كبيرة من النخب أصبحت خاضعة لهذا السكون، تتبنى نفس الأيديولوجيا، وتنشر المقولات نفسها. في هذا السياق الفكري، تحتلّ اللغة العاميّة مكانة الفصحى، وتحتلّ الطقوس بنمطيتها مكانة الجدل، وتعتلي الخرافة منزلة العلم، ويصبح السحر عقيدة، تمامًا مثلما احتل السّحرة ورجال الدين مكانة عليا في القرون الوسطى؛ وذلك عندما احتكر أصحابها الحق في التعليم، وتفسير العالم، بل وحتى دخول الجنّة! فسادت النظرة الساذجة للحياة، وتفشى المذهب المدرسي، أي التعليم الذي لا حياة فيه ولا علم فيه، فأصبح العقل لا يستجيب لنداء الفكر، وإنما يستجيب لسلطان الأشخاص والتقاليد والأنساق الثقافيّة؛ لأنه عقل يقدّس الأشخاص ولا يُعظّم الأفكار. والأكثر خطورة، أنه في ظل سيطرة العقل الأعمى على مجتمع ما، يظهر التنافس الشرس مع أصحاب العقل المستنير على التحكّم في الجماهير والسيطرة عليها بواسطة لغة العواطف المؤثّرة، وفي كل الأحوال ينجح دائمًا أصحاب العقل الأعمى في فرض رؤاهم على الجماهير؛ لأن لغتهم عاطفيّة تؤثّر في عوام الناس، أما لغة النخبة فتعتمد على العقل، ومن المعروف أن عوام الناس لا يستسيغون لغة العقل، بل ويحتفون دائمًا بإعادة ما دمّروه سابقًا، وما يؤكّد هذا حزن عوام الناس على رحيل رموزهم السياسيّة الديكتاتوريّة، رغم أنهم احتفوا من قبل احتفاءً كبيرًا عند مغادرتهم السلطة، وربما يعود هذا التناقض إلى أن أصحاب هذا العقل يعتمدون قوانين الإثارة والخيال والتحريض في سلوكياتهم.
تُعدّ أفكار الماضي في صورتها المطلقة، أداة قويّة لحضور العقل الأعمى في الحياة، فهي أفكار مقدّسة بحكم الزمن، وجاهزة لأنها مختبرَة، دون النظر في جدوى هذه الأفكار ونجاعتها مع مرور الزمن! لأن العقل الذي يتبنّاها لا يركن إلى السؤال، أو التأمّل، ولا يرغب في المحاكمة العقليّة. إنه عقل متوقّف عن الحركة؛ بسبب عجزه عن طرح السؤال على أفكار الماضي. إنه يرغب في إلباس القِيَم الجديدة ثياب المعتقدات والتقاليد القديمة؛ ومن ثمّة التهام الماضي للحاضر والمستقبل. إنه عقل يفرط في أنانيته لا يدرك حقيقة أن الأنهار لا تعود أبدًا إلى منابعها. يقول جوستاف لوبون في كتابه المثير (سيكلوجيّة الجماهير ص 47): «كان تدمير الحضارات العتيقة قد مثّل حتى هذه اللحظة الدور الأكبر الذي تقوم به الجماهير، والتاريخ يعلّمنا أنه عندما تفقد القوى الأخلاقيّة التي تشكّل هيكل المجتمع زمام المبادرة من يدها؛ فإن الانحلال النهائي يتم عادة على يد هذه الكثرة اللاواعية والعنيفة، وقد بنيت الحضارات ووجّهت - حتى الآن - من قِبَل أرستقراطيّة مثقفة قليلة العدد، ولم تبنَّ أبدًا من قِبَل الجماهير. فهذه الأخيرة لا تستخدم قوّتها إلا في الهدم والتدمير، كما أن هيمنتها تمثّل دائمًا مراحل الفوضى... فالجماهير بواسطة قوتها التدميريّة فقط تمارس فعلها في انحلال الحضارات، وعندما تنخر أسس الحضارة، تحضر الجماهير لكي تقوّضها، وفي تلك اللحظة بالذّات يتجلّى دورها. عندئذٍ تصبح القوّة العمياء للكثرة، هي الفلسفة الوحيدة للتاريخ». يُعد العرّافون والمشعوذون من أهم مروجي العماء العقلي؛ لأنهم يمتلكون قوى هائلة في التأثير على عوام الناس، ويفرضون هيبتهم بقوّة طغيانيّة هائلة، تجعل عوام الناس يفقدون الثقة في كل ما هو علمي وفكري وديني حقيقي. فيصبح الطبيب غير مجدٍ أمام المشعوذ، والفيلسوف مُلحد، والعالم علماني!
لعلي أكون مصيبًا عندما أضرب مثلاً في التاريخ الإسلامي على فعالية العقل الأعمى في إجهاض جميع محاولات النخب الإسلامية في التغيير والتنوير. فالنزعة الإنسانيّة التي أسس لها التوحيدي (414 هـ / 1023 م ) ومسكويه (420 هـ / 1024م) في مؤلفاتهما. فكتابهما الرائد (الهوامل والشوامل) يُعدّ أنموذجًا يُحتذى في تناول النزعة الإنسانيّة التي تتمركز حول الإنسان دون تجاهل الأبعاد الروحيّة؛ حيث حاول التوحيدي ومسكويه جاهدين تحرير الخطاب البشري حول الدين من الطقوس والشعائر، وربط الممارسات السياسيّة بالأخلاق. شَهِدَ هذا الكتاب أقوى المناظرات العلمية والفلسفيّة حول قضايا الأنسنة والإنسان ما قد ينذر بتحوّل جوهري في الفكر والسلوك الإنساني في هذه المرحلة التاريخيّة. قاد هذا الارتقاء المعرفي الفكر الإسلامي في هذه المرحلة إلى الانتقال من المرحلة الدنيا إلى المرحلة العليا، وساعد هذا على تحول المجتمع من حالة متأخرة إلى حالة متقدمة على المستوى الإنساني، وهو ما أطلق عليه محمد أركون (الوعي الإسلامي الكلاسيكي)، فالنهضة الفكرية التي حدثت آنذاك أسهمت وبشكل فاعل في بناء الحضارة الإسلامية الكلاسيكية، والفكر الإسلامي الكلاسيكي، وتمثلت هذه النُقلة في عدد من الممارسات الفكرية التي أنارت دروب الظلام في الوعي العربي، والثورة على الوعي القائم على منظومة القيم التقليدية الموروثة، وأصبح الوعي الإسلامي مؤهلاً لكل تغيير إيجابي يسهم في تطور الحضارة الإسلامية. ولكن الحدث السياسي الذي ظهر في بداية القرن الخامس الهجري، والمتمثّل في ظهور العهد السلجوقي وممارسات السلجوقيين القمعيّة والدمويّة، كشف عن انكفاء فئات عرقيّة وطائفيّة على أعراف وتقاليد محليّة هي من صميم الثقافة واعتبروها من أصول الدين، وكانت النهاية المأساوية لهذا العهد بظهور جماعة الحشاشين في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وهي جماعة أسّسها الحسن بن الصباح وكانت تعتمد سياسة القتل لكل من يختلف عنهم في الرأي والعقيدة، وظلوا يعيثون في الأرض فسادًا حتى قضي عليهم هولاكو.
يُعد هذا الحدث السياسي، من منظور النقد الحضاري، انقلاباً معرفياً لصالح سيادة العقل الأعمى الذي أجهض محاولات الوعي الإسلامي في تشكيل نزعة إنسانيّة مرجعيتها النص القرآني، وأحدث شرخاً في الوعي الإسلامي آنذاك نتج عنه تراجع في العقلانيّة الإسلاميّة في مقابل صعود اجتماعي للعقل الأعمى، أنتج بدوره أفكارًا ثقافيّة عاميّة تُكرّس للجمود والانغلاق؛ حيث سمح هذا العقل الأعمى بظهور طائفة الحشاشين الذي رسّخت معتقدات القتل للمختلف، وربما تكون الأفكار المتطرفة التي تنتهجها بعض الجماعات المتطرّفة امتدادًا إيديولوجيا لهذه الأفكار؛ لأن مثل هذه الأفكار تسكن في العقل الأعمى، ولكنها لا تموت، بل تتحيّن الفرصة لمعاودة الظهور حين تسنح لها الفرصة؛ وذلك لأنها مقدّسة وتحظى بثقة العقل الأعمى؛ لأنها تحقق له وجوده إلى جانب أنها تجعله يحقق انتصارات على القوى العقلانيّة الأخرى. ولأن التاريخ يعرض الحقائق بوصفها تجارب منفصلة، حدث الصدام بين التيار الأنسني والتيار التقليدي؛ نتج عن هذا الصدام التباس بين الحقائق، فأصبح يُنظر إلى الحقيقة لا لقوتها المعرفية والاستدلالية ومكانتها الفكرية، وإنما لقيمتها التاريخية ومظهرها، إنها مغامرة غير مدروسة، انفصل فيها الفكر عن العقل وروافده، وبلغ هذا التراجع ذروته بالقرار السياسي للمتوكل بقفل باب الاجتهاد في الدين، فأصبح العقل الإسلامي منذ هذا الحين يدور في إطار الإيديولوجيات.
ظلت هذه الانقطاعات تمارس دورها السلبي في الوعي الإسلامي برعاية هذا العقل الأعمى، حتى مجيء الاستعمار الغربي في نهاية القرن التاسع عشر، فأصبحت الفرصة مواتية لتقوية عمليات الانكفاء على الذات، وتعميق النظرة السلبيّة ضدّ الآخر الغربي، دون الفصل بين نماذجه المختلفة! أدّى هذا الخلط المفهومي إلى انعزال الفئات المختلفة بعضها عن بعض، ما أدى هذا إلى تعميق الانقسامات الثقافية والطائفية، وتأجيج الصراعات بين أبناء الأمة الإسلاميّة.
وَأَدَ هذا النكوص المعرفي، روح الأنسنة في الوعي الإسلامي وممارساتها في قبول الآخر والتعايش مع المختلف، وأسّس لإيديولوجيا الكفاح ضدّ المختلف، وجنّد البسطاء من عوام الناس لمحاربة كل ما هو مختلف، ونجح في تأميم الثقافة والدين؛ لأن النموذج الفكري لهذا العقل الأعمى يسعى إلى إحلال الثقافي والخرافي محلّ الديني والعلمي، وعقول العوام والبسطاء أداته الناجعة في نشر حقائقه المطلقة عن الأشياء. يكمن خطر هذا العقل في وعيه الزائف بالأشياء؛ وذلك برغبته في استمرار واقع ثابت لا يؤمن بالتغيّر أو التطوّر ودفاعه عنه. وكذا في قدرته الفائقة على أعاقة جميع العمليات الذهنيّة التي تطمح إلى إعادة تشكيل العالم على أسس جديدة؛ حتى تصبح الفرصة سانحة أمامه لتقديم مزيد من تفسيراته الخرافيّة والمغلوطة عن القِيَم والأشياء فيمنحها، في خطابه، أوصافًا مثاليّة متعالية ترتقي بها إلى منزلة القداسة، في الوقت الذي يكشف سلوكه وممارساته العمليّة عن اهتمامات أخرى غير التي يتشدّق بها. في ظل وجود هذا العقل، لا يمكن البحث عن حقائق جديدة، ولا عن معانٍ غير المألوفة والمعهودة؛ لأنه لا يمكن الوصول إلى الحقائق والغنى الدلالي بالإنصات إلى الأقوال المتطرّفة، والأفكار الخرافيّة.
وأخيرًا أقول: إن العقل الأعمى ليس أداة للمعرفة وإنما أداة للحكم والتقويم المعياريين، عقل يزعجه السؤال ولا يتقبّل النقد؛ لأنه يدرك أن السؤال سبيل لمعرفة جديدة، أو أداة لإنتاج معرفة جديدة، والمعرفة عنده مكتملة ومطلقة.العقل الأعمى، عقل لا يُخطئ، بل مُنزّه عن الخطأ، يحالفه الصواب في جميع قراراته ورؤاه عن الأشياء ولا يمحو شيئًا من معارفه السابقة؛ لأن رجاحته في الحكم على الأشياء ورؤيتها مستمدّة من قوى عُليا؛ ومن ثمّة يدافع عن أخطائه بتكرارها؛ لأنه هو وحده الذي يمتلك الحقيقة!
** **
أ.د/ عبد الفتاح يوسف - جامعة البحرين
للتواصل مع (باحثون)
bahithun@gmail.cm