كتاب الذكرى كنز ثمين، إذ فتحه المرء وأعاد قراءته مرة بعد مرة، وتأمل في أحداثه، وتفرس في شخصياته، وجد ما يملأ قلبه، وما يثري فكره، فكم حدث مر بالمرء لم يتبين كنهه إلا بعد حين، وكم موقف غاب أثره ردحًا من الزمن، حتى إذا عاين المرء نتيجته ادَّكر بعد أمة، واستيقظ بعد غفوة، فعرف لذي الفضل فضله.
وفي مطلع العام الدراسي ينفتح كتاب الذكرى على صفحة التعليم، وكيف جاوز الفتى الصعوبات مرحلة مرحلة، تفتحها الأم بالرفق، والتعليم بالحب، ويسير فيها الأب بالحزم، والتربية على الانضباط والالتزام، وكلما حاد عن التزامه، أو انحرف عن انضباطه أعاده رفق أمه، وهيبة والده إلى جادته.
وكم قُرن المعلم بالوالدين، فاستبعد المقارنة من لا يعرف قدر المعلم، ومن ينظر إليه نظرة مادية بحتة، يختزل دوره بأجير أدى وظيفته وتسلم أجرته، ويتناسى هؤلاء أن الأجراء متفاوتون إخلاصًا وإتقانًا، فمن أخلص من أهل التعليم وأحسن ارتقى في منزلة الأبوة بمقدار ما أخلص وأحسن.
إذا فتح صاحبكم كتاب الذكرى، وتصفح فصل التعليم، كانت صفحة أستاذه إبراهيم بن محمد بن صالح السلوم (1366-1440هـ) من أنصع الصفحات وأبهاها، كانت مليئة بالصور الملونة، والأصوات المحببة، والحركات المعبرة، والكلمات المحفزة، والتقريظات المشجعة، يزين بها دفتر الإنشاء، وكتاب القواعد، وورقة اختبار المحفوظات..
كانت الشخصية الواثقة تملأ الفصل إذا دخله، والجد يستغرق دقائق الحصة الخمس والأربعين، يستوي في ذلك يوم زار فيه الموجه (المفتش) ويوم لم يزر فيه أحد، لا يقف ولا يتكلف، ولا يستعد لمسؤول أو مشرف أو موجه، فالاستعداد صفته الملازمة له لأن يعطي درسه كما تقتضيه الأمانة، ويوجبه الإخلاص، بل يزيد من لدنه فضلا وإحسانًا.
أرأيتم درسًا شُرح قبل ثلاث وثلاثين سنة، هل يبقى منه في ذهن التلاميذ شيء؟ فإن بقي أثره بما بني بعده عليه أيبقى هو كما أُلقي ساعتها؟ والله إن صاحبكم ليتذكر دروسه كما ألقاها، وكأنه أمامه يستحث أذهان طلاب السادس الابتدائي في اكتشاف الإعجاز القرآني في قوله تعالى: (والخيلَ والبغالَ والحميرَ لتركبوها وزينةً ويخلقُ ما لا تعلمون)، ويتناول في درس آخر نصًّا في الكعبة المشرفة، رمز الخلود وكعبة الإسلام.. ويطيل الوقوف عند صورة المصلين حولها:
وإذا الصلاة دنت رأيت صفوفهم
بحرًا يموج بركَّعٍ وقيامِ
وفي قصيدة في (المذياع) يستطرف استشراف الشاعر للمستقبل لما قال:
ولكم سمعنا في المساء وفي الضحى
شخصًا على بعد النوى يترنم
وغدًا نراه كما نراك مجسَّمًا
وغدًا نراه لنا يطل ويبسمُ
ويقف طويلاً في درس أخلاقي متميز، عندما يشرح قصيدة عنوانها: نصيحة أخ لفتاةٍ:
يا أختنا هلاَّ سمعـتِ
مقالة الرجل الخبيرْ
أنَّ الفضائل للفتا
ةِ أجلُّ من درر النحورْ
والعلم ينفعُ والنـهى
يحمي الفتاة من الغرور
والدين يعصمُ أهله
ويقيهمُ كلَّ الشرورْ
وما كانت تلك الدروس لتبقى إلا لما احتفى بها مما يُحضر الانتباه، ويملك المشاعر، ويستثير الحواس، حتى يبقى الصوت والصورة والحركة والابتسامة، وتبقى معها المعلومة مستعصية على النسيان ما تعاقبت الأزمان.
أما حصة الإنشاء فكان لها شأن آخر، وكان له فيها فضل لا ينسى، كان من منهجه أن يطلب من بعض التلاميذ قراءة ما كتبوه، مبتدئًا بترتيبهم في منازل التفوق، وكان صاحبكم ليس بذي منزلة من المنازل الأربع الأوليات، فيضطر الأستاذ إلى الخروج عن منهجه، فيسحب كراسة صاحبكم من بين الكراسات، ويقدمه، ويعتذر لزملائه بكلمة لا تنسى: أنا محتاج لأسمع تعبير فلان! ثم يوقفه عند كل عبارة يستجيدها، بكلمة ثناء، وإيماء إعجاب، حتى إذا انتهى زيَّن كراسته بخير ما يكتب إشادة وإفادة.
لم يكن درسه رتيبًا مملاًّ، كان النشاط يملؤه، التفصيل والتمثيل، والأسئلة المفاجئة، والاستفهام الذي يقطع السرحان، ويستفز التفكير، وما كان هذا لدرسه إلا لحب في العلم والتعلم استقر في نفسه، وصار شيئًا من طبعه، فحرص كل الحرص على الترقي في سلمه، وهذا ما اكتشفناه من بعدُ، لما كان يغيب عنا أيام الاختبارات، فنسأل عنه، فيجيبنا زميله أستاذنا القدير صالح البادي: ادعوا له بالتوفيق، الأستاذ إبراهيم يتصبب الآن عرقًا في قاعة الاختبار!
لما تخرج في معهد المعلمين الثانوي عام 1386هـ لم يكن نال مراده من العلم بعد، فالتحق بالمركز التطويري للمعلمين وتخرج فيه عام 1390هـ، ثم التحق بكلية المعلمين بالرس منتظمًا فنال شهادتها عام 1405هـ، وحاول بعدها مباشرة الانتظام في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم، في قسم اللغة العربية، وبذل جهده، إلا أنه لم يحظ بموافقة الوزارة آنذاك على الانتظام (ولعل ذلك من فضل الله علينا حيث نلنا شرف الدراسة على يديه) فاستعاض عن الانتظام بالانتساب، فالتحق بالقسم، ونال الشهادة الجامعية عام 1409هـ.
بقي رحمه الله في سلك التعليم حتى تقاعد عام 1419هـ. تمر الأيام، والأماني تداعب النفس بلقاء بأستاذنا، أبين فيه فضله، وأستذكره معه أيامًا كنت أجلس أمامه في مقعد الدرس، وما كتبت من مقال ولا خطبة ولا رسالة إلا وصلتني به الذكرى، يجللني معروفه وفضله، ولكن الأماني إن لم تشفع بعمل فمآلها إلى الفوات، وقد فات أوان اللقاء، لما انتقل إلى جوار ربه يوم الاثنين الثاني والعشرين من شهر جمادى الأولى عام 1440هـ. رحمه الله وغفر له.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف – جامعة القصيم