أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
-1-
أشرتُ في مساقٍ سابقٍ إلى أنَّ جدليَّتنا الثقافيَّة ظلَّت منذ سنين- تناهز العشرين، أي منذ بداية هذا القرن- محتدمةً حول التحوُّل الإلِكتروني، الذي ما أراه إلَّا شبيهًا بالتحوَّل من الشفاهيَّة إلى الكتابيَّة في التاريخ البشري، أو من الخطِّ اليدويِّ إلى الطباعة. وأرى أنَّ ذلك سيشمل التعليم، والكتاب، والصحافة، والثقافة كلَّها.
إنَّ المؤلِّف بإمكانه الآن أن يطبع كتابه بيده، ويُخرِجه، وينشره ويوزِّعه في كلِّ المعمورة، عبر شبكة «الإنترنت». ففي عصرٍ كهذا، مَن ذلك الحكيم الذي سوف يُحاول إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، ليُصِرَّ على نَشْرٍ شاقٍّ، وعلى قرَّاءٍ محدودين، وتكاليف باهظة؟! ثمَّ مَن ذلك القارئ المتخلِّف، بمقاييس العصر، الذي سيتجشَّم شراء الورق، وأكداس المجلَّدات، أو ارتياد المكتبات العتيقة، وكلُّ ذلك متاحٌ تحت أنامله، وحيثما كان؟! إنَّه عصر المعرفة التي تَعبُر الكون كالهواء. يُغالِط نفسه مَن لا يُقِرُّ بذاك، ويُكابِر ضِدَّ الزمن والتاريخ مَن يستمرُّ في حَمل أسفار الماضي.
-2-
وحول مستقبل الإعلام الورقي، في ظلِّ انتشار صناعة الإعلام الإلكتروني وازدهاره، كتبتُ كذلك منذ سنوات، مشيرًا إلى أنه- ونحن نشهد تطوُّر الصحافة اليوم من عصرها الورقيِّ إلى عصرها الإلِكترونيِّ- لا يشكُّ المتابِع، ذو الحسِّ بإيقاع اللحظة، أنَّنا على مشارف انقضاء حِقبةٍ وميلاد أخرى؛ انقضاء حِقبة الصحافة الورقيَّة وميلاد حِقبة الصحافة الإلِكترونيَّة. وفي هذا الميدان تنكسر الحواجز، وتُتخطَّى خطوط الرقابة، ولا تبقى هنالك إلَّا مسؤوليَّة الكاتب، والمشرف على المؤسَّسة، في توخِّي الأمانة، والصِّدق، والحفاظ على الذوق العام، وحقوق الآخَرين الفكريَّة، والأدبيَّة، والاجتماعيَّة.
وكانت هذه آراء تجابَه كثيرًا بالاستغراب والوصف بالمبالغة، وربما بتسفيهٍ سافر، وقَرع عصًا غليظة. حتى جاءت (الآنسة كورونا)، هذا العام 2020، لتُعيد تأهيل الناس، ولتربِّي معاندي التاريخ منهم، تربيةً صارمة؛ إمَّا بالموت أو بالحياة! فلله درُّها من ذات تاجٍ مطاعة!
وأواصل التذكير بما كان يَستخِفُّ به المستخِفُّون. مردِّدًا مع (دُريد بن الصمَّة)، غيرَ مُتَشَفٍّ، ولا شامت:
أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِّوى... فَلَم يَستَبينوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الغَدِ!
-3-
إنَّ مستقبل التعليم سيكون عن بُعد، غالبًا، ومستقبل القراءة سيكون إلِكترونيًّا، شئنا أم أبينا. بإمكان المرء اليوم أن يحصل على مكتبةٍ كاملةٍ في قرصٍ حاسوبي، أو ذاكرةٍ ضوئيَّة، كحَبَّة لوزٍ أو أصغر. لذا لم تعُد المبالغة في الاحتفاء بالنشر الورقيِّ تعكس حيويَّةً ثقافيَّة أو معرفيَّة بالضرورة. من حيث إن أكداس الكتب الثقيلة التي يحملها طلبة المدارس، وأشطرهم «كَمثلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا»، قد احترق أوانها، وأسفار الكتب الكثيرة والثقيلة التي يحملها كثيرٌ من الناس من معارض الكتب، إنَّما تُجعَل غالبًا «ديكورات» في المنازل، للوَجاهة الثقافيَّة، لا أكثر. اليوم أضحى الكتاب، والفِلم السينمائي، والمنتجات الفنِّيَّة والثقافيَّة كافَّة، تأتي إليك عن بُعد، ولا تنتظر حضورك البهيَّ، بكامل فيروساتك! ومن هنا لم تعُد جدوَى من الجدال حول وصول الكتاب إلى القارئ، ما دامت ثورة الاتصالات الحديثة قد أضحت كفيلةً بجعل الممنوع المرغوب متاحًا لمن شاء. كلُّ هذا يأتي مهادَ عصرٍ إلِكترونيٍّ جديدٍ على شتَّى المستويات، وما الإعلام، بوسائله المقروءة، إلَّا قطاعٌ واحدُ من قطاعات التواصل في هذا العصر الفارق.
على أنَّ الأمل الطَّموح يحدو الباحثين دائمًا إلى تطوير المشاريع الثقافيَّة نحو التفكير في إمكانيَّة حصول الباحث على نُسَخٍ إلِكترونيَّة من الكُتب، ما أمكن ذلك، أو على ملخَّصاتٍ عنها، في أيسر تقدير. ذلك أن التقنية الآن صارت رهن مثل هذه الخدمة الجليلة؛ ليُصبِح تناول الكتاب عبر الشبكة العالميَّة للمعلومات ميسورًا، دون ذهابٍ إلى مكتبةٍ، بعُدت أو قرُبت. وهي مرحلةٌ لها ما بعدها، ستمكِّن الباحثَ يومًا، ليس بالبعيد، من الاستغناء أصلًا عن الكتاب الورقيِّ، بأعبائه وغباره وأوبئته، إلَّا في حدودٍ ضيِّقة.
العصر الإلِكتروني، إذن، ماثلٌ بين أيدينا الآن، لا ينفيه أن يكتنف الأمرَ تردُّدٌ حضاريٌّ ما، ولا أن لا يَدَعَ العربُ الحنينَ إلى المألوف، تُنازِعهم النفوسُ إلى ما اعتادت من دهرها الأوَّل، خارج عقليَّة العصر الذي نعيش فيه، عصر التقنية والنشر الإلِكتروني. حتى إنَّ هناك مَن لا يزال اليوم يتغنَّى برائحة الوَرَق، وعِطر الأحبار؛ معاقرًا الصفحات ورَبْوَ الغبار. رضيَ بأن يكون مع الخوالف، يحتسي عُزلتَه، خارج التاريخ والعالَم المعاصر!
-4-
أمَّا المؤسَّسات الثقافيَّة، فما فتئت تتخيَّل المجتمع يعيش في العصر العبَّاسي! وما برحت تتوقع أن سيحضر الناسُ إلى دواوينها، وأنديتها، ومهرجاناتها، زرافاتٍ ووحدانًا، وإلَّا فليسوا بمثقَّفين، من طراز (الجاحظ)، أو (جحظة)، أو حتى طراز (أبي العَمَيْثَل الأعرابي)! وهيهات؛ ذلكم زمن ولَّى بخيره وشره!
ولِكورونا- تربيتها وتعليمها وتثقيفها- بقايا من بقايانا!