د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
وما كان من أمر تلك المعركة ذات الأحرار الأنضاء والأبطال الأنكاس الكشف؟
فرأيت ثَمَّ رأيتَ خارقة
أَن راح يَرضَخُ صَخْرَكَ الْخَزَفُ
وليس يكون ذلك إلا في دنيا نكدة. وإنه من السخرية المرّة أن يحطم الخزف الهش الجلمد الصُّلْب؛ هذا عكس لطبائع الأشياء؛ فحقّ لها أن تسمى خارقة. وأما (رأيت ثمَّ رأيت) فهو تضمين من لغة القرآن، قال تعالى {وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعيمًا وَمُلْكًا كَبيرًا}[20-الإنسان].
وأنى لهذا الخزف أن يحطم الصخر لولا ما شهدتَه من أمرهم، فما شهدت فعجبت؟
وَشَهِدتَ سابِقَهم على ظَلَعٍ
وَسَمِعْتَ ناعِقَهُمْ وَمَنْ هَتَفُوا
وعَجِبْتَ كَيْفَ يَزينُ بَهْرَجَهُ
زُورُ الْمَقالِ وَيَأْثَمُ الحَلِفُ
وَالبازَ كَيْفَ يَبُزُّه رَخَمٌ
وَالدُّرَّ كَيْفَ يَعُزُّهُ الصَّدَفُ
وهذه من الخوارق أن يكون السبق لمن في آلة سبقه عطب، وهو الظلع. ورأيت المعجمات تسكن اللام (الظَّلْع)، وليس بغريب أن تفتح اللام ولام الكلمة حرف حلقي؛ قال ابن جني: «وأما الضَّأَن بفتح الهمزة في هذه القراءة فمذهب أصحابنا فيه، وفي مثله مما جاء في فَعْل وفَعَل، وثانيه حرف حلق؛ كالنهْر والنهَر، والصخْر والصخَر، والنعْل والنعَل، وجميع الباب، أنها لغات كغيرها مما ليس الثاني فيه حرفًا حلقيًّا، كالنشْز والنشَز، والقص والقصَص. ومذهب البغداديين أن التحريك في الثاني من هذا النحو إنما هو لأجل حرف الحلق... ويؤنسني بصحة ما قالوه أني أسمع ذلك فاشيًا في لغة عُقيل، حتى لسمعت بعضهم يومًا قال: نَحَوَه، يريد: نَحْوه»(1).
وجاء في مشارق الأنوار على صحاح الآثار «الظَّلع بِفَتْح الظَّاء وَاللَّام وَسُكُون اللَّام أَيْضا العرج، يُقَال مِنْهُ ظلِع بِكَسْر اللَّام إِذا كَانَ بِهِ غير خِلقَة فَإِن كَانَ خِلقَة قيل ظلَع بِالْفَتْح يظلُع بِالضَّمِّ مثل عَرِج وعَرَج فِي الْحَالَتَيْنِ»(2).
وتستحضر (وَسَمِعْتَ ناعِقَهُمْ) قوله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [171-البقرة]. قال الفراء «والمعنى - والله أعلم- مثل الذين كفروا (كمثل البهائم) التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت»(3). وهذه سخرية ممزوجة بمرارة.
ومضمون هذا النعيق أقوال مزورة، وأيمان كاذبة، كل ذلك لتزيين ما هو مبهرج، أي رديء مزيف معدول به عن الطريق السوي.
ومن العجب في هذا الوضع الرديء أن يتسلط الضعيف على القوي. جاءت صورة ذلك في إطار بديعي (جناس) بين (الباز) و(يبزّ) على اختلاف في الجذور (ب و ز/ ب ز ز)، والبزّ سلب الآخر وتجريده؛ لذا قالوا (من عزّ بزّ) أي من قوي سلب غيره وجرده. ويخطئ بعض الناس اليوم في قولهم فلان يبزّ زملاءه أي يتفوق عليهم، والصواب (يبذّ)، ولعل منشأ الخطأ أن منهم من ينطق الذال زايًا فتابعه من لا يبدل إبداله. وأما الرخم فهو من أجبن الطيور ويشبّه عامة نجد الشخص البليد قليل الحيلة بالرخمة، وكذلك في مصر يقال (رِخِم) للشخص الثقيل الظل الخامل. ومن العجب أن تبز الرخم الباز الذي هو من الطيور الجارحة المفترسة التي يصاد بها ولا تصاد.
ونجد البديع (الجناس) يظهر مرة أخرى في الشطر الثاني من البيت (يعزه) فهي مقترنة في الذهن بالأولى (يبزه) كما في المشهور (من عزّ بزّ). والغريب هنا أن النادر المتميز يطويه ما لا قيمة له، وهذا هو الدر الذي يجتاف الصدف فهي التي تمنعه. كما أن من وصفهم الشاعر في البيوت الماضية هم من تسلطوا وكان لهم الظهور والغلبة رغم الزيف والبهرجة والصدفية التي يتصفون بها. ولكن لم كان هذا الحال؟
أَوْصَتْ بِنا الأَيّامُ مُشْبِهَها
وَوُصاتُهُنَّ الإِثْمُ وَالجَنَفُ
إذن العلة أنّ أيامنا المتقلبة أوصت بنا من هم متقلبون مثلها، وإنما كانت الوصية الإثم والجنف. ونذكر بذلك قوله تعالى {فَمَنْ خافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَينَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[182-البقرة]، جمع في البيت الإثم والجنف كما اجتمعا في الآية الكريمة. قال الخليل «الجَنَف: الْمَيلُ في الكلام، وفي الأمور كُلِّها، تقول: جَنَفَ فلانٌ علينا، وأجنَفَ في حُكمه، وهو شبيهٌ بالحَيفِ، إلا أنَّ الحَيفَ من الحاكِم خاصَّةً، والجَنَفُ عامٌ»(4). وما مثال هذا الجنف؟
نَكْتالُها بِيَدٍ مُطَفَّفَةٍ
قَدْ أَخْسَرَتْ وَمَكيلُها الْحَشَفُ
و(نكتال) و(مطففة) و(أخسرت) كلها من قوله تعالى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذينَ إِذا اكْتالوا عَلى النَّاسِ يَسْتَوْفونَ وَإِذا كالوهُمْ أَو وَّزَنوهُمْ يُخْسِرونَ}[1-3: المطففين]. وفي الكلام حذف مفهوم، والتقدير نكتالها فتكيلنا بيد مطففة، وأما (مكيلها الحشف) فهو من المثل العربي (حشَفٌ وسوءُ كِيلة)، وكيلة اسم هيأة، وبعض الناس يخطئ فيجعله بفتح الكاف فيصير اسم مرة.
... ... ...
(1) ابن جني، المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، 1: 234.
(2) عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، مشارق الأنوار على صحاح الآثار، 1: 329.
(3) الفراء، معاني القرآن للفراء، 1: 99.
(4) الخليل، العين، 6: 143.