الجزيرة الثقافية : محمد هليل الرويلي:
لم تكن إجازة صيف العام 1403 للهو! لفتى نالَ توّه شهادة الكفاءة. أخوه موظف في البلدية, بشكل يومي يجلب له (الجزيرة, الرياض, اليوم).
بدأ رحلة الشغف القرائي. من الأولى للأخيرة. بما في ذلك إعلانات الأفراد والشركات والتعازي والتهاني.. إلخ كأني به في سدفة هجعة من صائفته ..
يقول ضيفنا الروائي القاص «ناصر الجاسم» منحتني هذه القراءة البكر قالب كتابة المقالة وعرفتني بأسلوبها، واكتسبتُ مهارة كتابة عرائض المطالبات وصياغة الخطابات والشكاوى للمسؤولين.. صاحبها - منتصف الثمانينيات- وجبة قرائية من خارج الحدود على يد أخي الثاني «روايات عبير» العاطفية. ربما أن هذه الوجبة الدسمة زمنها علمتني- بدون معلم أو عن بعد- فن الوصف في السرد...
«أنت الرياض» جواري المحبب للقصيبي
لَم يكن ما قرأته مشبعاً أو ملبياً لرغباتي الداخلية حتى جاء العام 1986م –يواصل ضيف العدد «الجاسم» الحديث: انضممت لجماعة المكتبة المدرسية في حصة النشاط لأجد نفسي في جوار محبب مع غازي القصيبي وذلك عبر ديوانه الشعري «أنت الرياض» في طبعة صفراء موزعة من وزارة الإعلام، فأبهرتني اللغة الشعرية عند القصيبي ومنذ تلك اللحظة حتى الآن وأنا أسير ومفتونٌ باللغة الشعرية عند أي كاتب.
القصيبي رغم أنه حمّسني عبر لغته الفاخرة لتجربة كتابة البيت والبيتين غير أني لم أنجح كشاعر، وظللتُ هائماً في بحر القراءة ولَم أرسُ عند شاطئ محدد منه، فأولعت زمناً بكتب علم النفس وقرأت
«دع القلق وابدأ الحياة»
ودخلت بعد ذلك في حالة فوضى قرائية أوقعتني فيها المجلات الكويتية الاجتماعية الفنية (النهضة والمجالس واليقظة) ومن ثم (المختلف) ووقعت في غواية الشعر النبطي ونالني منه مثل ما نالني من صنوه الشعر الفصيح، ثم عينت في العام 1989 أميناً لمكتبة النادي الرياضي في مدينتا العيون، فأجد نفسي وأنا أرتب وأفهرس في الكتب المغبرة وجهاً لوجه مع الروائي السعودي إبراهيم الناصر الحميدان في عمله الأجمل روايته ذات العنوانين «سفينة الموتى» و»سفينة الضياع» حتى استقرت فيما بعد على عنوان واحد هو سفينة الضياع، والحق أن الحميدان شدني إلى إبداعه الروائي لمدة عشر سنوات، ولَم انتهِ من جاذبية سرده حتى صار البطل في رواياته الخمس الأولى موضوعاً لرسالتي العلمية في درجة الماجستير، وقد كان الجذب الأكبر في «سفينة الضياع».
فقد كانت النافذة الأولى لي على عالم الرواية الفنية، ولا عجب أن أقرأ للحميدان قبل نجيب محفوظ وقبل غيره من كتاب الرواية العالميين، فلم يكن وصولي للروايات قبل التخرج من الجامعة سهلاً، وتواجدها عند قارئ أو كاتب من مجايلي يعد ترفا أو نعمة توجب الغبطة.
• قرأت في «حرب الخليج» ما لم أقرأه في عمري كله ولما دقت طبول الحرب في العام 1990 م تم منح التلاميذ آنذاك إجازة طويلة وشملتني المنحة لكوني معلماً، فقرأت في ستة أشهر ما لم أقرأه في عمري كله، فمن نافذة «الحميدان» إلى باب «محفوظ» الواسع وأبواب أدباء الستينيات في مصر وأبواب أساطين الرواية في العالم أجمع، كنت أنهب من يومي اثني عشرة ساعة يومياً لهذا الفن الجميل، ولَم أكن خائفاً من صواريخ سكود أو غازات صدام السامة ولَم تكن صافرات الإنذار بصوتها المرعب قادرة على أن تأخذ رواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ من يدي أو تهز قلبي وتفقدني التركيز على شخصيات روايته «ثرثرة فوق النيل» أو «خان الخليلي»، فقد توحدت عاطفياً مع هذا الإنسان العظيم قاصاً وروائياً حتى التهمتُ معظم ما وصلني من كتبه، ولَم يستطع أحد أن يفضل كتبه عندي غير نزار قباني بديوان شعر مصور أستعيره من صديق وأعيره بعدما أصوره لصديق آخر.
السرد تسلط عليّ في صلاتي!
وحول تجربته في التأليف والإصدارات يقول القاص والروائي ناصر الجاسم: رغم أنني لم أكن مؤمناً بالمرويات الجاهلية التي تقول بوجود شيطان للشعر يتسلط على الشاعر ويجبره على القول الشعري وعلى التدفق فيه وكذا ما تردد عن هذا الشيطان في شعر النقائض التي جرت بين جرير والأخطل والفرزدق في عصر بني أمية إلا أنني جربت تسلط شيطان آخر عليَّ، أسميه شيطان السرد، ففي كتابتي لروايتي الأولى الغصن اليتيم تسلّط علي في كتابة استهلالها وأنا أصلي صلاة العشاء، فأربكني رغم استعاذتي منه، ولَم يدعني أطمئن في صلاتي حتى كتبت في ذهني وفِي صلاتي صفحة ونصف وليس وأنا في مكتبي وعلى الورق، وقد حفظت ما تكوّن من استهلال في نفسي ورحت إلى مكتبي راكضاً لأنقله لمسودة الرواية، ولَم يمهلني هذا الشيطان في يقظتي، ولا في منامي، فاستمرأ في زياراته الليلة لي وأنا نائم فبت أحلم بجمل روائية وبالسطر والسطرين وعندما أصحو من نومي أدون فوراً في مسودة الرواية كي لا أنسى ما حلمت به، ومن ثم صار هذا الشيطان يأتيني وأنا في الأعراس وأثناء قيادتي للسيارة فأدوّن على ما أَجِدُ من قصاصات الورق من حولي ما يمليه غصباً علي ومن ثم أنقله لمسودة الرواية، وقد كنت أظن أن هذا الشيطان سيزايلني بعدما انتهيت من كتابة روايتي الغصن اليتيم في تسعة وعشرين يوما متصلة، فإذا بي أجده يساكنني وأنا أكتب مجموعتي القصصية النوم في الماء ويجعلني في الليلة الواحدة أكتب القصة القصيرة تلو القصة القصيرة ولا يكاد الصبح ينبلج حتى أكون قد أنهيت قصتين من القصص القصيرة، وظل على مشاغبته اللذيذة تلك لي في ليلة دون أخرى، ولَم ينتهِ الشهران حتى أكون قد أنهيت المجموعة القصصية كلها كتابة.
ظل - شيطان السرد- بعد أن نشرت اثني عشر كتاباً في السرد، وأعددت ثمانية كتب أخرى للنشر.
عليكم بلسان العرب ابن منظور
وقال في وصيته القرائية: أُهديت كثيراً من كتب الغير وكتب المؤلفين أنفسهم، لكن لم تؤثر في هدية كمجلدات لسان العرب لابن منظور، إذ أغرمت بهذه الهدية وبت أقرأها قراءة المحب المفتون، لقد أحسن ابن منظور في اختياره للعنوان. بالفعل وجدته لساناً عذباً قادتني القراءة العاشقة إلى محاكاة ومماثلة أقوال علماء اللغة الذين حضروا بأقوالهم في هذا السفر العظيم، فصرت من الولع بعلمهم أقلدهم عندما أتحدث، وأطرب لأي حديث إذاعي أو برنامج أدبي يتناول كلام العرب.