د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الإلهام الفردي الذي يُحدث تأثيرًا في العالم يتطلب قوة ما دافعة له، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، أو بيئة مناسبة من حيث السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأثره قد يغيّر نمط الحياة لمجتمع بذاته، أو لدول، أو العالم بأسره.
ففي مصر القديمة - مثلاً - وقبل أكثر من خمسة آلاف عام، وفي فترة وجيزة من عمر التاريخ بين ثلاثة آلاف وثلاثمائة قبل الميلاد، وثلاثة آلاف وخمسين، أي فترة مائتين وخمسين سنة، تحولت مصر بسرعة فائقة من تجمعات بسيطة متفرقة متناثرة على ضفاف النيل إلى دولة لها قائد واحد، وتسارعت الأحداث لتكون تلك الدولة قادرة على وضع أسس سياسية وإدارية رائعة، ساعدت على اقتصاد وترسيخ طقوس في العبادة والدفن بكل تفاصيلها، ورافق ذلك بناء صروح خالدة فكانت إحدى عجائب الدنيا السبع. والحقيقة إن ذلك التغير المذهل لم يكن بتأثير خارجي، وإن كان فهو محدود جدًّا، وإنما كان إلهامًا محضًا لشيخ مستوطنة من المستوطنات، استطاع أن يمد سيادته على عدد غير قليل من مستوطنات أخرى، وانبثق من ذلك إلهام، صنع شيئًا عجيبًا.
والأدوات المصنّعة من الخزف في فلسطين القديمة صُنعت بإلهام فردي متميز، فريد ومحلي، لم يُجلب من الخارج، وإنما تطور في مكان ابتكاره، وربما استفاد الآخرون فيما بعد من هذا الفتح الجديد ليقلدوه، ويستفيدوا منه.
لقد سبق ذلك كله إلهام إنساني لحل مشكلة قائمة قبل عشرة آلاف عام مضت؛ ففي سوريا قلّ المطر، وحلّ الجدب والقحط، ولم يعد بإمكان السكان الاعتماد على الرعي فقط؛ فحدث إلهام ربما يكون فرديًّا لزراعة الحنطة أو القمح؛ فكان ذلك الإلهام ثورة عظيمة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للعالم القديم، وتم ذلك دون تأثير خارجي، وإنما كان إبداعًا محليًّا، تجمع حوله عدد من البشر؛ فأضحى هناك قرى واستقرار، وتبعه تكوُّن مجتمعات ذات أنماط إدارية، تسيّر أمور السكان.
دعونا ننظر إلى إلهام من نوع آخر، حدث قبل أربعة آلاف عام في مصر، هو أدب الرثاء الذي سطّره الحكيم العجوز إيبو وير، وقد اكتسب انتشارًا مذهلاً في المملكة الوسطية. وقد كانت المقطوعة الأدبية تتناقل مشافهة، ثم سطرت فوصل إلينا جزء منها. وهذه المقطوعة الأدبية الخالدة، والناتجة من إلهام فردي لحكيم عجوز، صاغها إبداعًا بتكرار الحروف في مطالع الألفاظ، والقوافي في آخرها.
تحكي المقطوعة الحال التي وصلت إليها البلاد عقب الثورة، والفوضى التي نتجت منها، والآلام التي تجرعها الناس من جراء ذلك. ويرى الشاعر الحكيم العجوز أن هناك سببًا لهذه الآلام، ويلتفت يمنة ويسرة فيجد إله الشمس هو سبب البلاء؛ لأنه القادر على عدم حدوث هذه الفوضى، ويصب اللائمة على الغرباء الآسيويين الذين تسللوا إلى مصر أرض الحضارة، وهم جهلة شرسون، يصفهم بالقواسين، واحدهم قواس، أي الذين لا يفارقهم سلاحهم، وهو القوس آنذاك، وهم أجلاف غير متحضرين، ويعني بذلك العماليق المشهورين في التاريخ، والمذكورين في التوراة.
يقول النص الشعري: «واعجباه، غالت الصحراء في الوادي الأخضر، ودب الغراب في المراكز، وتسلل شعب أجنبي من شعوب الأقواس التسعة إلى مصر. واعجباه، ألم تعد الدلتا بأسرها بعيدة المنال، فالشعوب الأجنبية تتمرغ في خيراتها، الناس أهل البلاد يهربون ولا يجدون ما يأوون إليه سوى الخيام التي ينصبونها كما يفعل البدو. البدو يسيّرون البلاد. هذه البلاد التي حظيت في يوم من الأيام باحترام الشعوب الأجنبية كافة».
هذه المقطوعة الجميلة النابعة من إلهام عبقري حكيم حفظت لنا وللأجيال اللاحقة سجلاً تاريخيًّا لوضع مصر، ورؤية المصريين القدماء المتحضرين جدًّا لذلك الصنف من الناس المختلفين عنهم كما في الثقافة وأسلوب الحياة، حتى وإن لم يكن أصحاب الأقواس، أو العماليق، أو الأجانب - كما يسميهم - بذلك السوء، إلا أن ذلك الإلهام الشعري صور لنا ما يشعر به سكان النيل من فخر بحضارتهم الراقية التي لا تمت لحضارة الأجانب أصحاب الأقواس بصلة.
إنه الإلهام الذي جسّد الكثير من الإبداع في شتى مناحي الحياة. أما في العصر الحاضر فلعل مقال قادم يسطّر نبذة عنه.