د. عبدالحق عزوزي
تكاد التنمية أن تكون ظاهرة قديمة وطبيعية، سواء بالنسبة للكون الذي هو في حركة مستمرة لا تعرف التوقف أو الجمود، مع التوجه الدائم نحو التطور الذي يمس مختلف مظاهر هذا الكون، بما فيه من موجودات وكائنات تعيش فيه وتنعم بخيراته وثرواته.
ويعتبر الإنسان أهم المخلوقات التي تدرك هذه الحقيقة وتستفيد منها بجميع أبعادها، بدءًا مما يحتم عليه وجوده في هذا الكون، إلى الشعور بالحاجة لتنميته، سواء بالتطوير أو التغيير، مستغلاً في ذلك ما يكتشفه من جديد في محيطه، وما يكتسبه من علوم ومعارف ومهارات، وما يرنو إليه من تطلعات يحققها.
وبهذا تتشكل حياة الفرد والمجتمع، وتنتظم فيها مؤسسات تعنى أولاً بالإنتاج المستجيب لإشباع الحاجات الضرورية على مستوى الفلاحة أو الصناعة، في الحدود التي تقوم بها الحياة ويستقر العيش، قبل أن تتسع هذه الحدود بما يكون لها من فائض تختزنه أو تسوقه.
وشيئاً فشيئاً يبدأ التمايز بين المجتمعات ويتفاوت تقاسم الثروة بينها، فتتسع الفجوة وتتباعد الطبقات، وفق ما يكون لهذه المجتمعات من إمكان الاكتفاء الذاتي الضامن لعيش أفرادها، وكذا من فائض تصدره وتغتني به وترتفع إلى درجة التقدم والرقي؛ في وقت يظل الطرف الآخر المستورد لهذا الفائض في خصاص دائم، ويسْتمر طوق التخلف مشدوداً على عنقه.
إلا أن مثل هذه الحقيقة كما يكتب العلامة عباس الجراري تحتاج إلى اكتشاف الجديد واكتساب العلوم والمعارف والمهارات والخبرات، عن طريق إعمال العقل والفكر -والخيال كذلك- للتمكن من الإرهاص المفضي إلى الابتكار، أي إلى الخلق والإبداع والنظر برؤية لا مادية بعيدة لما يُخرج من مكامن التخلف، ولا سيما الفقر والجهل والمرض؛ مما يمنح القادر على ذلك والمتوسل به تفوقاً يَبرز به ويَظهر على من هو دونه، المكتوب عليه أن يكون رازحاً تحت وطأة التخلف الذي تكمن أبسط ملامحه في التبعية ومعاناة الحاجة، رغم ما يكون له من ثروات محلية يستغلها بوسائل شتى مَن هو متقدم عليه.
إن التنمية الحق هي التي تظهر آثارها -إيجاباً- على الوطن والمواطنين، وليس خدمة لتقدم الآخر المهيمن على مفاتيح هذا التقدم والمتحكم فيها، والمتحكم بالتالي في الإبقاء على مظاهر تخلف الطرف التابع.
وهي حالة تظل منعكسة عند الطرفين -المتقدم والمتخلف- على سائر مجالاتهما الحضارية والثقافية، ليس اقتصادياً فقط، ولكن كذلك اجتماعياً وثقافياً، ولاسيما على الطرف الثاني، مهما يكن النموذج الذي يحاول اقتفاءه وتقليده، أو الأيديولوجية التي يظن أن انتماءه إليها قد يحرره؛ في حين أنها في الحقيقة لا تعمل إلا على المزيد من تكبيله بالهبات والقروض والمساعدات التقنية، وحتى بالاستثمارات التي يتوهمها مشروعات تنموية نافعة قد يصبح بها ذا قدرة إنتاجية وقوة اقتصادية تؤهله للتكامل مع الآخر أو التنافس معه. وهي في الواقع عائق وعامل عرقلة.
ومع هذا، فإن اعتماد مثل تلك المشروعات المحدودة قد يخفف من استنزاف إمكانات البلدان المتخلفة التي توصف بالنامية أو بالسائرة في طريق النمو. وقد يساعدها على مواجهة بعض مستويات الفقر والجهل والمرض، وما قد تضطر إليه هذه البلدان من نفقات للتغلب على النكبات الطارئة عليها، أو التسلح لرد الأخطار التي قد تحدق بها في سعيها إلى حماية كيانها ووحدتها من كل ما يهدد أمنها واستقرارها.
وهكذا، فإن التنمية في عمقها هي كل مجهود يبذله الفرد والمجتمع، انطلاقاً من موارده البيئية وقدراته الذاتية، وانسجاماً مع خصوصياته، باعتباره هو الممثل للثروة الحقيقية من أجل تقدمه ورقيه في جميع ميادين الحياة ومستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يجعلها في النهاية تتسم بالشمول الذي تدمج في بوتقته كل معطيات الحياة، مع القدرة على تجاوز كل ما يعوق ذلك من اختلال وفساد.
هذا، مع تأكيد الحاجة إلى الانفتاح الداخلي بفكر نقدي وتوجه عقلاني ونظام منفتح، وبعلم نافع وحرية مسؤولة، وبالابتعاد عن كل ما يُلقي بالتبعة في تخلفه على عناصر مكذوبة.
على أنه إذا كانت الأسباب المفضية بالفعل إلى التخلف عديدة، فإن هناك أسباباً لها علاقة بالتأهيل الذي لا يثمر بسبب تعثر التعليم وضعفه وتراكم مشكلاته وما لها من تأثير، ليس فقط على سير دواليب الدولة، ولكن كذلك على المواطنين، وعلى العقلية التي تتحكم في سلوكهم وعلاقاتهم، وفي إضعاف فاعليتهم للعمل والإنتاج، زيادة على انتشار عدد من الانحرافات، كسوء الخدمات، وتفشي الغش والرشوة والرغبة في الربح السريع وإن كان غير مشروع، والميل إلى المبالغة في الاستهلاك المادي المتجاوز للإمكان.