د. محمد بن إبراهيم الملحم
وماذا بعد؟ لقد استعرضت لكم في الحلقات السابقة أهم ماورد في تقرير «التعليم في السعودية» الذي نشرته قريبا منظمة أو إي سي دي OECD وفعلت ذلك لأهمية هذا التقرير في نظري ، ليس لأنه صادر عن منظمة دولية فحسب ولكن لأنه الأول من نوعه، ويندر أن تجد تقريرا بهذه الشمولية والجودة يُمضي الباحثون فيه قرابة 3 سنوات حتى يجمعوا المعلومات من مصادر أدبيات الموضوع ومن وثائق ومنشورات ومن خلال الالتقاء بالخبراء والمسئولين المحليين والاطلاع عن كثب على سير العملية التعليمية لتشخيصها والخروج بتصور متكامل ثم تقديم توصيات تطويرية. جهد يليق بمنظمة OECD وخبرائها، وعلى الرغم إن كل عمل يشوبه النقص ويسهل توجيه النقد ، لكنما هذا التقرير قدم تشخيصا ناضجا لمشكلات التعليم في المملكة دون ريب، فغالبية ما أثير هو إما مدار حديث المختصين والعاملين في الميدان أو أنه ملموس مشاهد سواء في شكله ومضمونه أو في نتائجه ومترتباته، وأشير هنا إلى أن عددا من الجوانب التي أوردها التقرير كنت قد ألمحت إليها في مقالات سابقة قبل صدور هذا التقرير، وكذلك غيري فعل، وهذا التقاطع لمضمونات التقرير مع آراء الخبراء المحليين ليس صدفة وإنما هو مؤشر إيجابي لواقعيته وجودته.
استعرضت فيما سبق التقرير دون تعليق غالبا ولكني هنا أتوقف عند أهم المحطات: أن القضايا الأربع التي استعرضها لتطوير التعليم هي فعلا قضايا مفصلية: الحوكمة والقيادة المدرسية، جودة التدريس، تحديث ومعاصرة المناهج وتقييم الطالب، وتقوية تعلم الطالب. فهي مدار حديث كثير من اللقاءات والندوات والمقالات بل وحديث المجالس، ثم إنه دعا إلى صلاحيات أفضل لقائدي المدارس والتخلص من المركزية وهو ما تدندن حوله أكثر دعوات التطوير االإداري، وقد استرعى انتباه خبراء التقرير عدم توفر وحدة خاصة تعنى بالمخرجات التعليمية والتطويرية وانعدام النشاط البحثي المركزي لدى الوزارة والهادف لقيادة التغيير. ومع ذلك فإن كاتبي التقرير تمكنوا من ملاحظة الجوانب الإيجابية مثل تحسين مهنة التدريس من خلال المعايير الجديدة للمسارات المهنية للمعلم وبرنامج تأهيل المعلم للخريجين، وكذلك إعادة صياغة دور المشرف التربوي، ولكن أكد التقرير على ضرورة توفر «الجدية في المتابعة والتطبيق» ليحدث الأثر الإيجابي وأعتقد أن هذه اللفتة لم تأت من فراغ وإنما من خلال استقراء واقع الممارسات «التطويرية» التي شهدت أشكالا من المظاهر التطويرية الواعدة نظريا ولكنها افتقرت للجدية في المتابعة وحسن التطبيق فظلت مجرد مبادرات سطرتها عروض «الباوربوينت» يوما ما!
التقرير انتبه أيضا إلى الفئة متدنية الأداء جدا واقترح لها الشيك الذهبي وهذا مؤشر إلى تعمقه في بعض الإشكالات المحرجة، كما أن تطرقه إلى نظام «جدارة» للتوظيف وتوجيهه لأولوية القدرات على الأقدمية في المفاضلة مع الدعوة لاختبار في مادة التخصص هو عنصر جودة في شمولية التقرير، انتقاد التقرير لاضطراب تقييم المعلمين ونموهم المهني وأنه غير بنائي وإنما تقييم يتم لأغراض إدارية بحتة لا يختلف عليه اثنان، وقد أجاد عندما اقترح أن يكون من خلال قادة المدارس مع اشتراطه أن يُدرَّبوا بكفاءة. وأعجبني أنه دعا لتدريب عدد من الكفاءات التربوية السعودية ليصبحوا مقومين معتمدين على مستوى دولي مرموق فهذا جانب نشعر فيه بالنقص الشديد، وقد سبقتنا فيه كثير من الدول مع الأسف، وترافق هذا مع الدعوة إلى رفع مستوى المحاسبية المدرسية والتركيز أكثر على جودة التعليم والتعلُّـم، أمر لا تخلو منه مناقشة لجودة التعليم في المملكة فالمحاسبية متى ما ارتقت ارتقى معها الأداء بدون شك، وهي مما يشكو منه التعليم فلا تتوافر إلا في الجانب الإداري التنظيمي فقط.
انتقد التقرير كون تقييم الطالب تقييما ختاميا summative وأغلب أسئلته حول الحفظ والتذكر وأنها من نوع ما يسمى «الأسئلة الموضوعية» مثل الاختيار من متعدد أو صح/خطأ، ولا شك أننا ندرك جميعا فداحة هذا التوجه وتذوقنا مرارته عبر العقود الماضية منذ غزتنا هذه الموجة في الثمانينيات، ولقد انتقد التقرير أيضا أن مهارة تقييم الطلاب ليست على أجندة تقييم أداء المعلم التدريسي أو تطويره المهني وهذا لافت للنظر. انتقد التقرير نقص المصادر الفعالة لتدريس الصغار وتراجع تدريس القراءة والكتابة وتكاملها مع غيرها وكونه منصبا على تعلم الجانب القرائي اللغوي البحت والقواعد النحوية والإملائية ولكنه لا يعبأ بالقراءة المفهومية لوعي المعنى، وهذا نشعر جميعا بآثاره في أجيالنا الحالية التي لاتستطيع استيعاب ما تقرأه، حتى على مستوى بعض الخريجين الذين يلتحقون بالعمل! أثار انتباهي أيضا أن التقرير أشار إلى طريقة تقويم أداء المعلم القائمة على المقدار الكمي لما أنجزه من المنهج المقرر لا على تعلم الطلاب، وذكر أنها سبب لبعض المظاهر السلبية في التدريس، وهذا لا يختلف عليه اثنان في المجتمع التربوي.
كنت أتوقع قبل أن أقرأ التقرير أن أجده من صنف تقرير المجاملة الدولية أو مقتصرا على جوانب شكلية مثل المناهج والكتب والمصادر والمباني المدرسية، لكنه تعمق بشكل جيد في النظم والمعايير والممارسات حتى كأن من كتبه عايش التعليم لدينا لفترة طويلة، فجاءت نقاط التقرير متقاطعة مع مشاهدات المراقبين التربويين المحليين إلى حد كبير جدا، وهؤلاء ربما لا تقتنع بأطروحاتهم الجهات الرسمية التعليمية (لأي سبب لديها!) ولكن هذه منظمة دولية مرموقة وتقريرها بهذه الدرجة من التوافق Resonance مع الشعور العام.
ويظل السؤال: ماذا بعد؟
هل تظنون أني أنا من يجب أن يقدم إجابة لهذا السؤال؟.. أم جهة ما!
أشكركم لمتابعة حلقاتي لتقديم هذا التقرير المهم.
** **
- مدير عام تعليم سابقا
تويتر @mialmulhim