فهد عبدالله العجلان
الفساد وفشل التنمية متلازمة لها شواهد كثيرة في التاريخ والحاضر الاقتصادي، ونادراً ما تنجح تجارب محاربة الفساد؛ نظراً لتنوع وتمدد شبكاته، فضلاً عن الزمن الذي تستغرقه التجربة لسبر أغواره، وتحديد طرق نموه؛ لذا ليس من التجاوز الجزم بأن أي نجاح لمشروع التنمية في بلد، مرتبط وبشكل عضوي بالنجاح الذي يحققه في مكافحة الفساد؛ ليس على أرضية قضية هنا أو هناك، بل على أرضية اليقين المجتمعي بوصول يد المحاسبة إلى كل شخص مهما كان، ودون حصانة لأحد في تطبيق عملي لسيادة القانون.
كثير من الباحثين مجمعون على أن أهم التحديات أمام سباق التسارع في طريق التنمية الجديد على مستوى العالم أجمع هو الفساد؛ باعتبار أن ممارسات الفساد هي حُفر متناثرة عميقة، تقطع طريق التنمية وتشوّه مساره وتكبح استدامته؛ لذا فإن الإنفاق والاستثمار في التنمية مع نمو الفساد واستمراره، يتحول إلى ثقب أسود تبتلعه جيوب المتنفذين وأصحاب السلطة، مع سيادة قرارات وتشريعات المصالح الخاصة على حساب المصالح العليا للوطن والمواطن، وهنا مكمن الخطورة الأكبر من وجهة نظري.
المتأمل اليوم في بلادنا يلحظ أن كلمة السر ودرع حماية أهداف 2030 التنموية، والتي تمثل المعالجة الاستباقية والحصانة الأولية لوقف نزيف الفساد هي الحوكمة؛ فالحوكمة -كما أحب أن أصفها دائماً- تمثل إكسير الحياة الاقتصادية، واليد التي تفصد دماء الفساد من جسد التنمية، وتعود بواكير هذا المصطلح الجديد نسبياً -الذي شاع استخدامه والوعي به في مجتمعنا مع انطلاق رؤية 2030- إلى المناقشات الجادة والبحث المعمق في نهاية الثمانينيات الميلادية، حول أسباب فشل مشاريع التنمية التي تقدمها الدول والمنظمات الخيرية لعدد من الدول النامية؛ فبعد البحث الاستقصائي المعمق، تبيّن -وبشكل جلي- سوء إدارة التمويل الذي تتلقاه حكومات تلك الدول، وانتشار شبكات الفساد الداخلية التي تفرّغ تلك المساعدات من محتواها الإنساني، لتتحول إلى ثروات متضخمة في جيوب عدد قليل من المتنفذين!، وقد تطوّر هذا المفهوم اليوم ليكون بوصلة دقيقة لتحديد وجهة الحكم والإدارة الرشيدة عموماً.
الأمر الآخر الذي يحمي طريق التنمية من حُفر الفشل هو شيوع ثقافة المحاسبة وتحقيق العدالة، ولا يمكن إنجاز ذلك من دون خلق اليقين الكامل لدى المواطنين بصدق شعارات مكافحة الفساد وجديتها؛ لذا ليس من قبيل المبالغة القول إن المملكة اليوم مركز إشعاع إقليمي لمكافحة الفساد، تتطلع شعوب الدول الأخرى إلى تتبع أثر خطاها في هذا المجال، والملاحظ في نمط مكافحة الفساد في المملكة اليوم هو حماس المواطن ويقينه بالنجاح في مكافحته، ومع ما يراه من إرادة سياسية عليا لا تفرق بين أحد بات مؤمناً ومساهماً جاداً في مواجهته ومتطوعاً لكشفه، وهذا المنجز الذي تحقق في مكافحة الفساد -من وجهة نظري- يمثل أهم مؤشرات انتصار الرؤية في طريق التنمية.
قد لا يرى البعض ارتباطاً بين الفساد وحقوق الإنسان، لكنها علاقة عضوية لا تختلف عن سابقتها بين الفساد والتنمية؛ فالفساد من أكبر أسباب انتهاك حقوق الإنسان، ويمكن استقراء هذه العلاقة وتتبع خريطة تشابكاتها من خلال تطور مسار مفهوم الحق في التنمية وأدبياته المعرفية، والذي يشكل أهم معالم الجيل الثالث من حقوق الإنسان، وتشير المادة الثانية من إعلان الحق في التنمية -الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأول من ديسمبر عام 1986م- إلى أن الإنسان هو الموضوع الرئيس للتنمية، وينبغي أن يكون المشارك النشط في ممارسة هذا الحق والمستفيد منه، وتشير المادة ذاتها إلى ضرورة تعزيز نظام اجتماعي واقتصادي مناسب للتنمية، يساهم في التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها، وهو -في نظري- ما يستلزم مكافحة الفساد بإرادة سياسية صلبة تعزز وجود هذا النظام.
تطوّر مفهوم الحق في التنمية ليتجاوز بُعده الاقتصادي، ويصبح الإنسان هو المرتكز الشامل لهذه التنمية، وعليه فقد أصبح هذا الحق من السمات الأساسية لمبدأ حقوق الإنسان بمفهومه الواسع، وقد برز هذا المفهوم بمعناه الشامل مطلع السبعينيات الميلادية؛ عبر التقارير الإنمائية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والمتأمل في روح الإعلان الأممي للحق في التنمية، يدرك عمق المشروع التنموي الطموح للمملكة، والذي قدّمه سمو الأمير محمد بن سلمان في مشروع رؤية 2030، فهو يُشكل مظلة تحوُّل وطني شامل، يُقدم ممكنات التمتع بحق التنمية للمواطن بمفهومه الشامل، ولأن الخطط التنموية في العالم أجمع وفي منطقتنا على وجه الخصوص، تظل حبراً على ورق ما لم تملك ممكنات حقيقية لنقلها من الرفوف إلى الصفوف الأولى في مسار بناء التنمية، فلم تتملكني الثقة والطمأنينة بنجاح مخرجات هذه الرؤية إلا حين أطلق الأمير كلمة السر الأهم في ضمان تحقيقها؛ ألا وهي الحوكمة. واليوم العالم أجمع شهود على بناء طريق تنمية جديد دون حُفر فساد وبسياج حوكمة متين!